قال رحمه الله تعالى:[فصل: إذا قال: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: أنت طالق إن قمت، طلقت في الحال].
شرع المصنف -رحمه الله- في تعليق الطلاق على الحلف، والحقيقة أن الحلف له بابٌ مخصوص وهو باب الأيمان، والحلف شيء والطلاق شيءٌ آخر، لكن تجوّز العلماء وتسامحوا في إطلاق الحلف على الطلاق، وهذا لا يستلزم أن الطلاق يأخذ أحكام اليمين كلها، إنما هذا تجوز لوجه الشبه بين اليمين الذي هو الحلف وبين الطلاق، ووجه الشبه ينحصر في صور خاصة، منها: الطلاق في هذه الصورة في تعليق الطلاق بالشرط لقصد الكف أو الحمل على الفعل، فإذا علق الطلاق على شيء زاجراً امرأته عن ذلك الشيء أو حاثاً لها على ذلك الشيء، فإنه حينئذٍ يكون في معنى اليمين من جهة الحث على الترك أو على الفعل، لا أنه يمين؛ لأن الحلف لا يصلح بغير الله عز وجل، ولا ينعقد بغير الله عز وجل:(ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، فليس بيمين شرعي من كل وجه، وإن كان بعض العلماء يرى أنه يكفر كفارة يمين، لكن هذا قول مرجوح، وجمهور السلف والأئمة -رحمهم الله- على وقوع الطلاق المعلق بالشرط الذي ألزم فيه المكلف نفسه فيما بينه وبين الله أن امرأته إن خرجت طلقت عليه، فلا فرق بين قوله: إن جاء الغد أو إن طلعت الشمس فأنت طالق، وبين قوله: إن قمت فأنت طالق، أو إن قعدت، أو إن سلمت على أبيك، أو إن زرت أهلك، فكلٌ منهما بمعنىً واحد، وهذا قول جمهور العلماء -رحمهم الله- ومنهم الأئمة الأربعة، فإذا علق فيما بينه وبين الله عز وجل من أجل أن يحث امرأته على فعل أو يمنعها ويزجرها من فعل فإنه في معنى اليمين من جهة الحث والمنع، لكنه لا يأخذ حكم اليمين من كل وجه، هذا من حيث الأصل، قال بعض العلماء: إنه يكون في حكم اليمين، وهذا قول مرجوح لأنه مبني على القياس والنظر، وأنتم تعلمون أن الطلاق مبناه تعبدي، وألفاظه في الأصل تعبدية في الكيفية، فالشرع جعل الطلاق جده جدٌ وهزله جدٌ، يقول العلماء: لفظ الطلاق على الخطر والمخاطرة، فالأصل أنه لا يتكلم متكلم بهذا الطلاق إلا ألزمه الشرع به، هذا هو الأصل، فلن يستطيع أحد أن يسقط هذا الإلزام الذي ألزم به المكلف نفسه إلا بدليل شرعي يبين أنه لا يأخذ حكم الطلاق، حتى الهازل الذي لا يقصد ولا يريد إيقاع الطلاق أمضى الشرع عليه الطلاق، مع أنه لا نية له، والشرع يعظم أمر النية، وقد تقدم بيان حكمة الشرع في اعتماد الطلاق، وأخذ الناس فيه بالحزم وبالجد، حتى أن الرجل لو قال لامرأته: أنت طالق، وفيما بينه وبين الله قصد أنها طالق من حبل؛ فإنها تطلق عليه قضاءً، كل هذا حتى لا يتلاعب الناس بهذا اللفظ المبني على الخطر، وأنه ينبغي أن يحتاط في أمر دينه، فهو حينما يقول لامرأته: إن خرجت من الدار فأنت طالق، لا يختلف اثنان أنه فيما بينه وبين الله عز وجل يريد إيقاع الطلاق إن خرجت من داره، وكونه يريد أن يمنعها أو يريد أن يحثها على الفعل؛ هذا أمر خارج عن صلب الموضوع، صلب الموضوع أن الله أعطاه إذا تلفظ بهذا الطلاق أن يمضي عليه الطلاق، هذا الذي مضت عليه الشريعة في جد الطلاق وهزله، وإذا ثبت كونه يقصد المنع فهذا أمر جاء تبعاً، وشرع الله ألزم كل مطلق بطلاقه، وجمهور العلماء على وقوع الطلاق المعلق بشرط سواءً تضمن الشرط حثاً أو منعاً وزجراً بحيث يقصد منه أن يحث امرأته على شيء أو تمتنع منه، فإن وقع الشرط وقع المشروط، فلو قال لها: إن خرجت فأنت طالق، فكل شخص يعرف معنى الطلاق، ويعرف أنه يقول لزوجته: إن خرجت -يعني: بينه وبين الله- فأنت طالق، فلا فرق بين قوله: إن خرجت فأنت طالق، وبين قوله: إن جاء الغد فأنت طالق، هذا قصده في الزمان، وهذا قصده في وقوع الفعل أو عدم وقوعه إن لم تقومي، إن لم تذهبي، إن لم تأتي، إن لم تعملي، كل هذا بينه وبين الله، وجاء بصيغة معروفةٍ في لسان العرب، وربط مضمون جملة بمضمون جملة أخرى، فنلزمه فيما بينه وبين الله بطلاقه، هذا من حيث الأصل.
إذا ثبت هذا، فإن تسمية الطلاق حلفاً ليس المراد أنه من كل وجه يأخذ حكم اليمين، ولا تشرع فيه كفارة اليمين، وما حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً في الطلاق أن يكفر كفارة يمين، ولا عن واحدٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفتى أحداً في مسألة من مسائل الطلاق أن يكفر كفارة يمين، بل جماهير السلف من العلماء والأئمة -رحمهم الله- على أن من علق طلاقاً بينه وبين الله عز وجل على وقوع الشيء الذي اشترطه؛ أنه يلزم بالطلاق، ولا فرق في ذلك بين أن يعلق على زمان أو مكان أو بين أن يعلق على وقوع شيء أمراً وحثاً أو زجراً وتركاً.