[ما يفعله الحاج بعد صلاة الصبح بمزدلفة]
[فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام فيرقاه أو يقف عنده ويحمد الله ويكبره ويقرأ: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) ويدعو حتى يسفر].
قوله: (فإذا صلى الصبح برغيبته أتى المشعر الحرام)، كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لما كانت صبيحة يوم النحر أُذّنَ للصلاة بغلس، ثم أقيم لها وصلى عليه الصلاة والسلام بالناس، ثم وقف بالمشعر ودعا الله عز وجل وسأله من فضله حتى أسفر، وقبل أن تطلع الشمس دفع عليه الصلاة والسلام من المزدلفة، وكانت قريش في الجاهلية ومن معها من المشركين يقفون بالمزدلفة، ولا يمكن أن ينصرفوا منها حتى تطلع الشمس، ولذلك كان يقول قائلهم: (أشرق ثبير كيما نغير) وثبير: هو الجبل الذي بحذاء منى؛ لأن منى بين ثبير والصانع يكتنفانها، وهما جبلان: أحدهما يسمى: ثبيراً، والثاني يسمى: الصانع.
فقولهم: (أشرق ثبير كيما نغير) يريدون بذلك أنهم لا يدفعون من مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس، فخالفهم صلوات الله وسلامه عليه، ودفع قبل أن تطلع الشمس.
قوله: (الحرام فيرقاه أو يقف عنده).
السنة أن يقف عند المشعر، ولو وقف في أي موضع من مزدلفة أجزأه.
قوله: (ويحمد الله ويكبره ويقرأ: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ)) لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٩٨] قال العلماء: قوله: (عند المشعر الحرام)، قيل: إن المراد به مزدلفة كلها، وقال بعض العلماء: إنه الجبل الذي بحذاء المصلى الذي وقف عنده عليه الصلاة والسلام، وأما تلاوة الآية فلم يثبت في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص، ولا حاجة إلى التقيد بذكر آية أو دعاء مخصوص أو استحباب لذلك أو تعيينه إلا بدليل؛ لأن الشرع لم يرد فيه ما يدل على تلاوة ذكر معين، وإنما قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٩٨]، والقاعدة: أن المطلق يبقى على إطلاقه.
فيقال للناس: اذكروا الله عز وجل، كما أطلق الله عز وجل، من حمد وتسبيح وتكبير وتهليل بل وتلبية، كل ذلك جائز ومشروع؛ لأن الله أطلق، وكل ما صدق عليه أنه ذكر يذكر به سبحانه، لكن أن يقال: تُتْلَى آية معينة، أو يُذْكَرُ دعاء مخصوص، فإن ذلك يعتبر بدعة وحدث، وتوضيح ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من دعائه المأثور: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً)، فلو قال رجل لرجل: إذا صليت في المسجد فقل: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة:٢٠١].
نقول: إن هذا الدعاء مسنون، لكن كونك تلزمه به، أو تدعوه أن يقوله في هذا الموضع والمكان المخصوص هذا لا أصل له، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) فقد يقول لك قائل: إن تلاوة قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة:٢٠١] من الدين والشرع، تقول له: نعم، من الدين والشرع، ولكن الذي ليس من الدين والشرع أن يأمر بها في الموضع المخصوص، كأن يقول: قلها في هذا الوقت، أو قلها في هذا المكان، أو قلها في هذه الساعة، فكل ذلك يعتبر بدعة، ولا يلزم الناس بتلاوة آية معينة أو بدعاء مخصوص إلا إذا عين الشرع وخصص ذلك.
لكن أن يقال للإنسان: اذكر الله عند المشعر الحرام، واحرص على أدعية النبي صلى الله عليه وسلم المأثورة، وجوامع كلمه التي ثبتت عنه، فذلك هو الهدي، وذلك هو الأفضل والأكمل، فيقال هنا: يقف بمزدلفة عند المشعر بعد صلاة الصبح ويضرع إلى الله، ويسأل الله من عظيم فضله، ويأخذ بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه؛ من استفتاحه بحمد لله والثناء عليه، وسؤال الله من خيري الدنيا والآخرة، مع اعتقاد عظيم الفقر إلى الله، والاستغناء بالله سبحانه وتعالى، وأنه هو الغني الذي لا تنفد خزائنه، وأن يده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة.
وكان العلماء رحمهم الله يعظمون الدعاء بالمشعر الحرام، حتى أثر عن بعض السلف أنه قال: وقفت هاهنا أكثر من ثلاثين حجة أسأل الله العظيم أن لا يجعله آخر العهد ويردني إليه، وإني لأستحي من الله أن أسأله، فرجع ومات من سنته.
فالمقصود: أن هذا الموقف وهذا الموطن يعتبر ثاني المواطن تشريفاً وتكريماً بعد موقف عرفة، وكان العلماء يعظمونه؛ لأن الله عز وجل خصه وقال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة:١٩٨]، فإذا وقف الحاج بهذا الموقف هيأ من نفسه أسباب الدعاء الخاشع الخاضع، الذي يكون سبباً لاستجابة دعائه، فيحس أن الله عز وجل أكرمه وتفضل عليه ببلوغ هذا المكان، وأنه ما كان ليبلغه لولا حول الله وقوته وتوفيقه له، ولذلك إذا استشعر ذلك خضع لله وخشع له ودعا من قلبه.
قوله: (ويدعو حتى يسفر) أسفر الصبح إذا بان، والمراد بذلك أنه يقارب طلوع الشمس، ويسفر جداً؛ لأن الرواية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بمزدلفة حتى أسفر جداً).
ثم يدفع بعد الإسفار، فلما قال: إن الموقف إلى أن يسفر، فمعنى ذلك: أنه يدفع بعد الإسفار، والسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من دعائه ركب ناقته القصواء وأردف معه الفضل بن عباس، وهو ثاني من أردف في الحج؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أردف معه أسامة من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى أردف معه الفضل بن العباس ابن عمه رضي الله عنه وعن أبيه، قال الفضل: (فلما مر في الطريق قال: القط لي سبع حصيات)، فالسنة أن يلتقط الحاج سبع حصيات من مزدلفة قبل أن يبلغ محسراً، وأثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (بمثل هذا فارموا، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)، فدل على أنه ينبغي للمسلم أن يتحرى السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يزيد في العبادات، وأن لا يتنطع ولا يبالغ فيها؛ لأنه لا خير إلا في اتباعه عليه الصلاة والسلام، والشر كل الشر في الزيادة على هديه ومجاوزته والغلو في الدين.