للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حالات المبيع]

قال رحمه الله: [والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد فلا تبدل].

المبيع لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون عيناً.

الحالة الثانية: أن يكون ذمة.

وبناءً على ذلك فالبيوع لا تخلو: ١ - إما أن تكون عيناً بعين.

٢ - أو ذمة بذمة.

٣ - أو عيناً بذمة.

وكل من هذه الثلاث لا يخلو كل واحد منها إما أن يكون: ١ - نسيئة من الطرفين.

٢ - أو ناجزاً من الطرفين.

٣ - أو نسيئة من أحدهما ناجزاً من الآخر.

فأصبحت البيوع تسعة، ولذلك يقول بعض العلماء: لن تجد بيعاً على وجه الأرض يخرج عن هذه البيوع التسعة ألبتة.

إما عيناً بعين، وإما ذمة بذمة، وإما عيناً بذمة.

والعين بالعين إما أن يكون: ١ - ناجزاً من الطرفين.

٢ - نسيئة من الطرفين.

٣ - ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.

والذمة بالذمة إما أن يكون: ١ - ناجزاً من الطرفين.

٢ - نسيئة منهما.

٣ - ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.

والعين بالذمة إما أن يكون: ١ - ناجزاً من الطرفين.

٢ - نسيئة منهما.

٣ - ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.

فالعين بالعين: مثل أن يبيعك هذا الكتاب بهذا الكتاب، فإذا قال: أعطني الآن، وأعطيك الآن.

فأعطى كل منهما عيناً بعين، ناجزاً من الطرفين.

ولو قال: نتعاقد على أن أسلمك بعد شهر وتسلم لي بعد شهر، فهذا نسيئة من الطرفين.

ولو قال: خذ الكتاب الآن وأعطيك غداً، فصار عيناً بعين، ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.

أما ذمة بذمة: فكأن يبيعك كتاباً من صحيح البخاري من طبعة كذا وعدد أجزائه كذا وكذا، بكتاب من صحيح مسلم عدد أجزائه كذا، من طبعة كذا، فأصبح ذمة؛ لأنه موصوف، فالتزم في ذمته أن يعطيك هذا الموصوف المقدر بهذه الأوصاف المعينة، فصار ذمة بذمة.

وقد يكون ناجزاً من الطرفين، كأن يقول: الآن أنزله لك وأعطيك، وتقول أنت أيضاً: وأنا أنزله لك الآن وأعطيك، وأنتما في مجلس واحد، فصار ناجزاً من الطرفين، وهو ذمة بذمة.

أما إذا قال: أعطيك غداً وتعطيني غداً، أو أعطيك بعد شهر وتعطيني بعد شهر، فهذا نسيئة من الطرفين.

وإذا قال: سأعطيك الآن، فقلت: لا أستطيع أن أعطيك الآن، وإنما سأعطيك بعد غدٍ أو بعد شهر، فصار هذا ناجزاً من أحدهما ونسيئة من الآخر.

أما عين بذمة: فكأن تأخذ واحد من الأول في مقابل واحد من الثاني، فتقول: أبيعك هذا الكتاب بنسخة من صحيح البخاري، فهذا الكتاب عين، والنسخة من صحيح البخاري موصوف في الذمة، أي: التزم في ذمته بهذه النسخة.

وما فائدة قولهم: عين وذمة؟ فائدتها العدل وإعطاء كل ذي حق حقه، حتى نعلم أن الشريعة أعطت البيوع دقة لن تجدها في أي قانون على وجه الأرض من هذه الدقة المتناهية، حتى في المبيع، حينما تقول: بعتك هذا الكتاب، معناه: أن الإيجاب والقبول منصب على معين يفوت بفواته.

فلو أن هذا الكتاب ظهر به عيب، أو وجد فيه صفحات مطموسة وجئت للبائع، وقلت له: رد لي هذا الكتاب؛ لأن هذا الكتاب فيه عيب، فقال لك: أعطيك بدلاً عنه، ولن أرجع لك الفلوس.

فقلت: لا.

أنا أرغب في هذا الكتاب بعينه، واشتريت منك هذا الكتاب بعينه فرد لي الثمن؛ لأن البيع يفوت بفواته.

من تجده يفصل هذا التفصيل {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة:٥٠] لكن لمن؟ {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٥٠]، فالله تعالى أعطى كل ذي حق حقه في معاملات الناس في أمورهم الشخصية في أمورهم المالية في جميع الشئون والأحكام.

ومنها ما ذكرنا في المبيعات، فقد دخل الفقهاء حتى في كيفية البيع، فقالوا: إذا انصب على معين فات بفواته، فلو باعك كتاباً واشتريته منه بعينه، ثم ظهر الكتاب مغصوباً، فإنه قد وقع على عين ليست ملكاً للبائع، فبطل البيع، ووجب رد العين إلى صاحبها، ولا يبدل هذا البيع ببيع آخر.

لكن لو جئت إلى صاحب المكتبة وقلت له: أعطني نسخة من صحيح البخاري.

فقال: بعشرة، فقد التزم في ذمته أن يعطيك نسخة من صحيح البخاري بعشرة، فإن وجدت النسخة الأولى التي أعطاك إياها معيبة، كان من حقه أن يقول: أنا التزمت لك، فإذا فاتتك الأولى أعطيك بدلاً عنها.

ومن هنا نجد بعض الناس إذا وجد عيباً في السلعة يغضب، خاصة إذا وجد فيها شيئاً من التلاعب والغش، فإنه يقول: لا أريد أن أتعامل مع هذا الرجل، ولا أريد أن أعطيه ربح مالي، فإذا أصر المشتري على موقفه، وقال: أعطني مالي.

وقال البائع: بل تأخذ بدلاً عنه؛ فلابد أن يرجع إليه ماله.

ولو لم نضع هذه القواعد لما استطعنا أن نعدل بين اثنين، فالشريعة قد تجد فيها نوعاً من التشدد، لكنها في الحقيقة فيصل بين الناس.

فهذا من تفصيل الأحكام أن كل إنسان يأخذ حقه، فإذا جاء القاضي وهو يريد أن يفصل في الخصومة، وقد وضعت الشريعة ضوابط المبيعات والعقود، لا يوجد أي عائق يعوقها عن إيصال الحق لكل ذي حق، فيوصل لكل ذي حق حقه.

فهنا إذا وقع البيع على معين فات بفواته، فإذا صرف الدراهم والدنانير وقلنا: إن الدراهم والدنانير تتعين بالعقد، فحينئذٍ إذا ظهرت معيبة أو مغشوشة مزيفة فات العقد بفواتها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>