[عدد ركعات صلاة التراويح]
قال رحمه الله تعالى: [والتراويح عشرون ركعة] في القرون المفضلة كانوا يقومون بعشرين ركعة، وفي هذا العدد حديثٌ عن ابن عباس مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه حديث ضعيف، فيه إبراهيم بن عثمان، وهو ضعيف باتفاق المحدثين.
وفيه كذلك أثر السائب بن يزيد في قيام أبي بن كعب، وتكلم العلماء فيه، فمنهم من صححه كالإمام النووي وغيره، ومنهم من ضعفه، وكانت عشرين على عهد عمر رضي الله عنه، واستمر هذا في عهد السلف الصالح، فقد كان في عهد مالك رحمة الله عليه، وكذلك أدركه الأئمة كالإمام أحمد رحمة الله عليه، وهذا يدل على أن له أصلاً، ومن المعلوم أن المدينة إلى عهد مالك -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - لم تدخلها بدعة واحدة، ولذلك رأى الإمام مالك أن العمل بقول أهل المدينة حجة إذا كان من الأمور الظاهرة، وقد فصّل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالةٍ نفيسة في إجماع أهل المدينة.
فكون التراويح تصلى بعشرين ركعة إلى عصر مالك -كما نقل في الموطأ ما يدل عليه ويشهد له- يقوي أن هذا العدد له أصل، لكن اعتقاد أن هذا العدد بمثابة اللازم، والمحافظة عليه على وجهٍ يُظَنّ أنه لازم لا تشرع الزيادة عليه ولا النقص منه لا أصل له، ولذلك ينبه على أن فعله من حيث الأصل جائز؛ لأنه داخل تحت الأصل الذي يطلق قيام الليل، لكن إذا اعتقد الشخص أنه لا تجوز الزيادة على ثلاث وعشرين، أو أنه لا يجوز النقص عن ثلاث وعشرين، وتقيد بذلك والتزم فقد أحدث، ووجه الإحداث فيه أنه ظن ما ليس بلازمٍ لازماً، واعتقد فضل الثلاث والعشرين بعينها دون ورود نص بالتحديد، فكان تبديعه من هذا الوجه، أما لو صلّى ثلاثاً وعشرين على أصل أنه كان محفوظاً، وأراد بذلك التخفيف، كالإمام يريد أن يخفف على كبار السن ونحوهم، فيجعل طول القيام لأجل أن يكون أرفق بهم فلا حرج في ذلك، والهدي الأكمل والأفضل والأعظم أجراً اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاقتصار على إحدى عشرة ركعة، فهي الثابتة في حديث أم المؤمنين عائشة، وإن زاد إلى ثلاث عشرة ركعة فلا حرج؛ فإنها سنة كما في الحديث الآخر، وكذلك إلى خمس عشرة ركعة، كما هو حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه في السنن، فكلٌ على سنةٍ وخير، ولا يجوز لأحدٍ أن يقول: إن الإحدى عشرة ركعة واجبة، فمن زاد عليها يعتبر مبتدعاً.
فليس هناك أحدٌ من أئمة السلف رحمة الله عليهم يقول: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة؛ لأنك إذا قلت: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة فمعناه أنه يجب على من قام الليل أن يلتزم بإحدى عشرة ركعة، ولكن تقول: الهدي الأكمل والأفضل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المحافظة على إحدى عشرة ركعة، أما أن يعتقد أن من زاد على إحدى عشرة ركعة أنه مبتدعٌ فلا، ويأبى الله ويأبى رسوله عليه الصلاة والسلام ذلك؛ لثبوت الأدلة من الكتاب والسنة على مشروعية الزيادة على إحدى عشرة ركعة.
أما الدليل الأول على إطلاقها فقوله سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:١٦]، فأطلق ولم يقيد، ولم يلزم بعددٍ معين.
وقال سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ} [الزمر:٩]، فأطلق ولم يقيد.
وقال تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:٢]، فأطلق ولم يقيد.
وقال سبحانه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:٧٩]، فأطلق ولم يقيد.
فدليل الكتاب صريحٌ في عدم الإلزام بعدد معين.
ثم انتقلنا إلى السنة فوجدناها قد دلت على هذا قولاً وفعلاً وإقراراً: أما القول فقد وجدنا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما سأله السائل -كما في الصحيحين من حديث ابن عمر - عن صلاة الليل كان الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة)، فلم يبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الليل يلزم فيها بإحدى عشرة ركعة، وإنما أطلق له، وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل).
وأقوى الأدلة دلالةً على عدم الإلزام بإحدى عشرة ركعة ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل إلى المدينة خاطب أهل المدينة -وهم لم يروه يقوم الليل- خاطبهم بقوله: (أيها الناس أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام)، فلو كانت هذه الإطلاقات مقيدة بالفعل فكيف يفهم أهل المدينة في أول لحظة يلقون النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنهم مطالبون بإحدى عشرة ركعة، وهو يخاطبهم ويقول: (صلوا بالليل والناس نيام)؟ فأطلق لهم، ففهمنا من هذه الأدلة في الكتاب والسنة أن قيام الليل على الإطلاق، ثم جاء فعل النبي صلى الله عليه وسلم فوجدناه على صورتين: فصورة إحدى عشرة ركعة ترويها عائشة، وصورة في الزيادة على إحدى عشرة ركعة يرويها ابن عباس وغيره، وبناءً على ذلك فإنك لو قلت: احملوا المطلق على المقيد من فعله عليه الصلاة والسلام يرد الإشكال: أنحمله على إحدى عشرة ركعة، أو على ثلاث عشرة ركعة، أو على خمس عشرة ركعة؟ ثم إن مسلك حمل المطلقات على المقيدات في مثل هذا ضعيف، ولا يتأتى بحال؛ لأنك لو قلت بهذا لزمك أن تقول: إن صلاة النهار المطلقة مقيدة بما ورد؛ لأنه كما قيدت في صلاة الليل تقيد في صلاة النهار، فتعتبر من زاد على ما ورد في صلاة النهار مبتدعاً ولا قائل بذلك، فعلى العموم لو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث واحد ينهى عن الزيادة على إحدى عشرة ركعة ما حل لمسلمٍ أن يجاوزه، ثم إننا لم نجد في عصر القرون المفضلة التي شهد لها بالخيرية إماماً واحداً من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم يقول: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة.
ومن وجد أحداً من السلف الصالح من الأئمة الذين هم أهل الفضل والعلم في القرون المفضلة يقول بذلك فإنها فائدةٌ عظيمة وليتحفنا بها، لكن الذي يظهر من أدلة الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح من هذه الأمة أن الأمر موسّع فيه، وأنك إذا أردت أن تلتزم السنة تقول: الأفضل والأكمل أن يصلى كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة، فتكون ملتزماً بدليل النص.
ثم لو قلت: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة فاعلم أنك تقول ذلك بالاجتهاد، ووجه الاجتهاد أنك حملت مطلق النص على المقيد، وهذا -كما هو معلوم- ليس من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يقوى على ترك النصوص المطلقة التي هي من كلامه، كقوله: (صلوا بالليل والناس نيام)، وكذلك التي من نص القرآن، فضلاً عن أن حمل المطلق على المقيد فيه النزاع المعروف بين الأصوليين، فالتزام نصوص الكتاب والسنة الواردة أولى من الميل إلى هذا الاجتهاد في حمل المطلق على المقيد مع ضعفه من جهةٍ أصولية؛ لأن فقه الأصول في حمل المطلق على المقيد أن يكون الأصل دالاً على التقييد، أما إذا كان الأصل دالاً على الإطلاق فإنه لا يقوى حمل المطلق على المقيد في مثل هذا، فهذا الذي ظهر والله تعالى أعلم.
فإذا ثبت هذا فهل الأفضل لو صلّى الإمام ثلاثاً وعشرين ركعة أن تنصرف من عشر ركعات تتأول السنة، أو تبقى معه إلى تمام قيامه؟ والجواب أنه إن انصرف من عشر ركعات فإنه يكون على الحال المفضول، وإن انصرف من ثلاث وعشرين ركعة فلا شك أنه يكون على الأفضل، وذلك لثبوت النص في قوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع إمامه حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة).
وإذا قال قائل: إنه الإمام الأول فهذا ضعيف؛ لأنه إذا قيل بأنه الإمام الأول الذي ينصرف من خمس تسليمات فمعنى ذلك أنك تخالف معنى النص؛ لأن النص إنما جاء من أجل شحذ همم المأمومين للبقاء مع الأئمة، فقصد الشرع من قوله: (من قام مع إمامه حتى ينصرف) أن يبين فضل معونة الأئمة على البقاء، فإذا قال: إنه الإمام الأول خالف المقصود.
ثم إن الإمام الأول إذا انصرف فإنه لم ينصرف حقيقةً، وإنما بقي كما هو معلومٌ ومعهود، وبناءً على ذلك فلا يسلم الانصراف لا من جهة معنى النص، ولا من جهة دلالة ظاهر الحال، فلا يشك أن البقاء إلى انتهاء التراويح بكمالها أقرب إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرب إلى هديه، فهو أكمل من وجوه: أولها: أنه ظاهر قوله: (من قام مع إمامه حتى ينصرف)، فلم يفصّل النبي صلى الله عليه وسلم بين إمامٍ يلتزم الإحدى عشرة ركعة أو يزيد.
ثانياً: أنه إذا بقي مع الإمام حتى ينصرف فإن هناك فضائل كثيرة لا يشك أنه مثابٌ عليها، منها: سماعه للقرآن، ومنها: قيامه بين يدي الله راكعاً ساجداً، ومنها: ما يكون من مشقة ومؤنه العمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثوابك على قدر نصبك)، أي: على قدر تعبك.
وقال الله تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:١٩٥]، فلا شك أنه لو بقي إلى تمام التراويح فهو أفضل وأعظم أجراً، وأضف إلى ذلك أن آخر التراويح فيه الوتر، خاصةً في الثلثين الأولين من الشهر، وهذا الوتر فيه دعوة المسلمين، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحائض أن تشهد صلاة العيد وتعتزل المصلى، مع أن عندها العذر وممنوعةٌ من الصلاة، فقال: (وأما الحيّض فليعتزلن الصلاة وليشهدن الخير ودعوة المسلمين)، فلا شك أنه لو بقي إلى انصراف الإمام الأخير أصاب هذه الفضائل التي دلت عليها السنن، وبناءً