[حكم مضاربة العامل لشخصين فأكثر]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [ولا يضارب بمال لآخر إن أضر الأول ولم يرض] فقد شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان ما يجب على العامل في عقد المضاربة.
فإذا اتفق شخصان على عقد مضاربة، فقال أحدهما لآخر: هذه مائة ألف اضرب بها في الأرض، والربح بيني وبينك مناصفةً، وقال الآخر: قبلتُ، فالواجب على العامل ألَّا يلتزم بمضاربة أخرى لشخص آخر.
والسبب في هذا أنه يضر بمصالح الأول في أغلب الأحوال؛ لأنك إذا أعطيت المال إلى مضارب وعامل؛ فإنه إذا تمحض لك بالعمل كان ذلك أدعى للإتقان، وكان ذلك أغلب للربح، وأكثر نماءً، وحينئذ إذا تدخل مضارب آخر أو صاحب مال آخر، فإنه يضر بمصالحه، فإن العامل إذا تفرغ لك أمكنه أن ينصح ويقوم بأعباء العمل بقوة أكثر مما إذا كان بين شخصين أو أكثر من شخصين، ولذلك من حيث الأصل لا يضارب غيرك؛ لكن بعض العلماء يقول: يُشترط أن يوجد الضرر، فإذا وُجد ضرر على صاحب المال الأول، فإنه لا يجوز له أن يضارب، وأما إذا لم يوجد الضرر فيجوز له أن يضارب.
تفصيل ذلك: قالوا: إنه ربما أخذ مبلغاً يسيراً في المضاربة الأولى، فضارب -مثلاً- بألفين، وهذان الألفان أخذ بهما تجارة أو أخذ بهما عروضاً كثياب -مثلاً-، وهذه الثياب يقوم ببيعها في ساعتين في أول النهار، فهذا الذي يتيسر في عرضها، فإنه يبقى بقية اليوم بدون عمل، فإذا ضارب شخصاً آخر ولم يضر بمصالح الأول، جاز له أن يضاربهما معاً، فيضارب بمال الأول، ويضارب بمال الثاني، والربح يأخذه من الأول، ويأخذه من الثاني.
قالوا: وإذا لم يكن هناك ضرر، جاز له أن يضارب شخصين أو أكثر من شخصين.
فأصبح فقه المسألة يدور على القاعدة المعروفة: (الضرر يُزال).
وتوضيح ذلك: أن عقد المضاربة بينك وبين العامل يستلزم أن ينصح لك وألَّا يضر بمصالحك، فكل عقد يدخله على العقد الذي بينك وبينه يضر بالمصالح المترتبة على العقد بينكما من حقك أن تعترض عليه، فلا يجوز له أن يعقد بين ربي المال أو ثلاثة أو أربعة مضاربة من هذا الوجه، فأصول الشريعة تقتضي دفع الضرر.
قالوا: فإذا وقع العقد بينه وبين شخص فمعناه أنه يبذل جميع الأسباب لما يعين على الربح والخير للمضارب الأول، فدخول المضارب الثاني والثالث يؤثر على المضاربة؛ لكن ذكرنا أنه لو ضارب بمبلغ يسير، كألفين أو ثلاثة آلاف، في شيء يمكنه أن يتفرغ بعده، كأن يكون -مثلاً- اشترى سيارة بألفين، وصار يضارب بها يريد أن يبيعها، فلربما يجلس أكثر النهار بدون عمل، فضارب شخصاً آخر بألفين أخرى بسيارة ثانية دون أن يستضر الأول، صح ذلك وجاز.
إذاً: فمدار المسألة على الضرر، والقاعدة في الشريعة: أن (الضرر يُزال)، فالعقد بينكما على أن ينصح كل منكما للآخر، فلا يدخل عقد على عقد على وجه يوجب الضرر على العقد الأول؛ لكن لو كانت المضاربة -مثلاً-: أعطيتَه مائة ألف ريال، وقلت له: اضرب بها في الأرض، فاشتر بها قماشاً أو اشتر بها سيارات، وهذا القماش أو هذه السيارات أو أي عرض اشتراه يستلزم منه أن يكون أكثر اليوم معه، وأن يكون محافظاً عليه، مراقباً لسوقه، ويستلزم العمل أن يكون فيه أغلب اليوم، أو أكثر اليوم بحيث لا يتفرغ لعمل آخر، ففي هذه الصورة لو أعطيته مالاً كثيراً أو كان المضارب الأول قد ضاربه بمال كبير يستلزم الفراغ الأكثر، ودخل المضارب الثاني، فإن دخول المضارب الثاني لا يُشك أنه ضرر على الأول، وسيؤثر على الربح، وسيؤثر أيضاً على المصالح، فقد تكون بعض التجارات إذا تفرغ لها العامل أتقنها وحصَّل الربح الأكثر؛ لكن لو أدخل مضارباً ثانياً وزاحم الأول فانقسم العامل في عمله بين عملين، فأصبح في هذه الحالة لا يستطيع أن يقوم في المضاربة الأولى على الوجه الأتم الأكمل فحصل الضرر، فإما أن يحصل الضرر في نقص الربح، وإما أن يحصل الضرر في حصول الخسارة.
مثال نقص الربح: مثلاً: هذا العامل إذا جلس في المحل أمكنه أن يصرف البضاعة بين ثلاثة أنواع من الربح: - ربح (١٠٠ %).
- و (٧٥ %).
- و (٥٠ %).
فيأتي ويقول: هذه السلعة بمائة، فإن كاسره المشتري إلى خمس وسبعين أو إلى ثمانين باعَ؛ لكن لو وكَّل عاملاً لا يستطيع أن يقول له -مثلاً- قد يحدد له إلى ثمانين، فالمكاسر والمشتري ربما يريد بخمس وسبعين مع أن مصلحة المضاربة بخمس وسبعين، فحينئذ يتضرر غيابه عن العمل؛ لأنه سيترك العمل ويذهب إلى العمل الآخر.
فشتات العامل بين مضاربَين فأكثر يضر بمصلحة المضارب الأول.
ومن هنا قالوا: إذا رضي المضارب الأول وقال له: أسمحُ لك أن تعمل مع غيري، أذنتُ لك أن تجمع بين مضاربتي ومضاربة فلان، فلا بأس، فهو حين يأذن فمعنى ذلك أنه رضي بسقوط حقه، والحق مشترك بينهما، فجاز للعامل ولرب المال أن يتفقا على هذا الوجه المعروف.
لكن لو أنه ضارب من ورائه، فحينئذ ننظر إن اشتملت المضاربة الثانية على الضرر على المضاربة الأولى كرجل أعطى عاملاً مائة ألف، واستلزمت البضائع والعروض وجود العامل أكثر الوقت وأغلب الوقت، فتشتت وأصبح وقته مشتتاً بين المضاربتين، فنقص ربحُ المضاربة الأولى واستضرت أو خسرت أو انكسرت، وربح في الثانية، ألزم بوضع الربح الذي كسبه في الثانية للمضاربة الأولى.
فمثلاً: أخذ مائة ألف وضارب بها، ولو أنه تفرغ لربح خمسين ألفاً؛ ولكنه ربح أربعين ألفاً -مثلاً-، والضرر في هذا الربح العشرة آلاف، وكان سببها أنه اشتغل ساعات في آخر النهار ثم ضارب في الثانية، وفي المضاربة الثانية ضارب زيداً بعشرين ألفاً وربح مع العشرين عشرة، وأصبحت الثلاثين ألفاً خمسة آلاف له، وخمسة آلاف لصاحب المال، فتؤخذ الخمسة آلاف التي حازها العامل من المضاربة الثانية، وتضم في مال المضاربة الأولى، ليُجبر بها الخسران، ويرتفع بها الربح، وحينئذٍ تقسم بينهما؛ لأن هذا الوقت وهذا الجهد في الأصل مستحق للمضاربة الأولى وليس للمضاربة الثانية، فغُرِّم على هذا الوجه الذي اختاره غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم.
وحاصل الأمر: أنه لا يجوز للعامل أن يضارب إلا بإذن صاحب المال.
فتتفرع على هذا مسائل: منها: الإجارة: فلو أن شخصاً استأجر أجيراً يعمل عنده بالشهر، فالواجب على الأجير ألَّا يعمل مع الغير، وهذا مثل ما يقع الآن، ربما تأتي إلى عامل يعمل أثناء عمله، وتقول له: احمل لي هذا المتاع، أو ضع لي هذا الشيء، فتلزمه بعمل آخر وتعطيه المال، فليس من حقه ذلك، ولا من حقك أن تتفق معه حتى ولو كان يكنس القمامة في الشارع، ليس من حقك؛ لأن هذا الوقت مستحق لغيرك، وقد أخذ عليه المال من غيرك، فإذا جئت تستغله في عمل وجب أن تستأذن رب العمل الأصلي في هذا الوقت؛ لأنك لن ترضى أن يكون عاملاً عندك، فيأتي شخص آخر ويكلفه بعمل في مدة عمله عندك، ولو لم يكن عنده عمل في هذه الساعة.
مثال: لو وضعت عاملاً في مزرعة على أن يحرسها ويقوم على مصالحها، ففاضت له ثلاث ساعات بدون عمل، فجاء جارك وقال له: الثلاث ساعات التي تكون فيها بدون عمل تعال واعمل عندي فيها بثلاثين ريالاً أو بمائة ريال أو نحوها، فليس من حق الجار أن يفعل ذلك؛ لأن هذا الوقت كله مستحق لرب العمل الأول، سواءً كان كفيلاً له أو كان بينه وبينه عقد، فلا يجوز له ذلك، ومن هنا تخرَّج إذا التزم بعمل في المصلحة العامة، فإذا كان عاملاً في مصلحة عامة من بيت مال المسلمين، فإن أوقات فراغه بعد دوامه وعمله لراحته، فإذا التزم فيها بأعمال خاصة أو أعمال للغير جاء إلى عمله الأصلي منهكاً مرهقاً وأضر ذلك بمصلحته الأصلية.
فإذاً: أي عمل يلتزم به شخص مع شخص آخر، وارتباطه بعمل ثانٍ مع هذا العمل يضر بمصلحة الأول، لا يجوز أن يعقد العقد الثاني إلا بإذن الأول؛ لأن أصول الشريعة دالة على أنه لا يجوز للمسلم أن يتعاطى أسباب الضرر، والعقود الشرعية شرطاها: ألَّا تتضمن الإضرار، فإذا تضمنت الإضرار مُنع منها؛ لأن العقد حينئذ يكون من باب التعاون على الإثم والعدوان، فالعاقد الثاني في العقد الثاني حينما تعاقد مع العامل اعتدى على العقد الأول، واعتدى على مصالحه، واعتدى على حقوق أخيه المسلم، فوجب ألَّا يفعل ذلك.
ومن هنا لا يجوز للعامل أن يضارب شخصاً آخر.
وإذا تقرر هذا فيَرِدُ الإشكال في مسألةٍ معاصِرة: منها: إذا دفع ماله في المصرف على أن المصرف يضارب بالمال.
المشكلة أن المصرف يلتزم مع مئات الأشخاص، وحينئذ يرد السؤال، وتبقى المسألة قائمة وداخلة تحت هذا الأصل: إذا دفعت مائة ألف لمصرف إسلامي على أن يضارب بها، فهل من حقه أن يأخذ من غيرك؛ لأن هذا قد يضر بمصالحك؟ ولا شك أنه عند معاملته لشخص أو أشخاص معينين يكون أقدر على الربح مما لو كان عنده أكثر من شخص، ولذلك تحتاج هذه المسألة إلى بحث واجتهاد معاصر؛ لأنها مفرعة على الأصل الذي ذكرناه، فلا يجوز إذا عامل طرفاً من مصرف أو غيره أن يتعامل هذا المصرف مع الغير حتى يثبت هل من المصلحة أن يتعامل مع الشخص الثاني، أو ليس من المصلحة؟ ثم بعد ذلك تُقَرَّر المسألة وتُخَرَّج على الأصل الذي قرره العلماء رحمهم الله.
قال رحمه الله: [فإن فعل رد حصته في الشركة]: قوله: (فإن فعل): أي تضارب مع الثاني.
قال: (رد حصته في الشركة): وعلى هذا يتخرج أن العامل لو عمل عند شخص آخر غير كافله في وقت عمله عند كافله، وجب أن يرد المال إلى مَن كَفَلَه، ووجه ذلك: أن هذا الوقت -جهد العامل- قد اشتُري فيه، فأنت إذا أخذت عاملاً وتعاقدت معه شهراً كاملاً فمعناه أن ساعات الشهر كلها التي هي وقت العمل ووقت القيام بالمهمة تستحقها لمصالحك، فإذا قام وعاوض على هذا الوقت عند شخص آخر فأنت الذي تستحق هذا المال.
وقد يقول قائل: العمل عمل العامل، فكيف آخذ المال منه؟ يتخرج هذا على أن الوقت والجهد مستحَق لرب العمل الأول، فأنت إذا استأجرت العامل شهراً في المزرعة، فمعناه أن ساعات الشهر بالمعروف التي يقوم فيها العامل كساعات النهار -مثلاً- لسقي المزرعة والقيام على مصالحها، فهذه الساعات قد اشتريتها من العامل، وجُهد العام