للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[محل القنوت]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ويكره قنوته في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة غير الطاعون فيقنت الإمام في الفرائض].

تقدم معنا بيان مشروعية القنوت في الوتر، وذكرنا تعليم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء للحسن بن علي رضي الله عنه وعن أبيه.

وهنا شرع المصنف رحمه الله في التنبيه على مسألة القنوت في غير الوتر التي تعتبر من مسائل الخلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، فهذا القنوت -وهو الدعاء الذي يكون بعد الركوع، أو يكون قبل الركوع- هل يشرع في غير الوتر، أو لا يشرع؟ فمذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أن دعاء القنوت في الفريضة يعتبر سنة.

وبهذا القول قال الإمام مالك والشافعي عليهما رحمة الله، وقال الإمام أبو حنيفة وأحمد رحمة الله عليهما: إن المداومة على دعاء القنوت في الفريضة ليست بسنة، ثم اختلفوا على قولين: فقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: إنما يشرع في النوازل.

ومنع الإمام أبو حنيفة القنوت مطلقاً.

فأما الذين قالوا بمشروعية دعاء القنوت فقد استدلوا بأحاديث صحيحة ثابتةٍ عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه قنت ودعا، ومن أصحها ما ثبت عنه: (أنه قنت شهراً يدعو على رعل وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله)، وكان يدعو بالنجاة للمسلمين، فكان يدعو أن ينجي الله الوليد بن الوليد، وكذلك دعا عليه الصلاة والسلام بنجاة عياش بن أبي ربيعة رضي الله عن الجميع، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على مشروعية القنوت، وأكدوا هذا بحديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا).

وأما الذين قالوا: إنه لا تشرع المداومة على القنوت، وإن المداومة عليه بدعة فقد استدلوا بما ثبت في حديث لـ مالك الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه أنه سأل أباه رضي الله عنه فقال: يا أبت: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فهل كانوا يقنتون؟ قال: أي بني: إنه مُحْدث.

وهو حديثٌ رواه أصحاب السنن، قالوا: فهذا يدل على أن المداومة على القنوت تعتبر بدعة.

وقالوا: إن الأحاديث التي دلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة الفجر إنما كانت في أول الأمر، ثم نسخ ذلك.

وأجابوا عن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بالطعن في سنده، وهو حديثٌ متكلمٌ في سنده، رواه البيهقي وغيره.

ولذلك فالذي يظهر من هذه المسألة أحد أمرين: الأول: ما اختاره جمعٌ من المحققين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل القنوت أحياناً ويتركه أحياناً.

وهذا مسلك يسلكه بعض العلماء رحمة الله عليهم في الجمع بين النصوص.

والمسلك الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لحاجة، فيعتبر القنوت سنة إذا وجدت الحاجة.

وهذا القول الأخير هو أحوط الأقوال وأولاها بالصواب إن شاء الله؛ لأن الصلاة شأنها عظيم، وقد حصل التردد بين كون القنوت باقياً وبين كونه منسوخاً، ولا شك أن الأدلة على نسخه أقوى، أي: نسخ المداومة عليه، فإن الله عز وجل أوحى إلى نبيه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:١٢٨] فكفّ عليه الصلاة والسلام.

وجاء في الحديث الآخر: (أنه لما قنت يلعن رعلاً وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله، وقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف أوحى الله إليه: يا محمد: إنا لم نجعلك نكالاً، وإنما جعلناك رحمةً للعالمين) -صلوات الله وسلامه عليه- وكان فيما أنزل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:١٢٨] أي: لا تدعُ عليهم، فلعلّ الله أن يتوب عليهم، ولذلك فالفاسق والمجرم والكافر المعين لا يدعا عليه، وإنما يدعا بتوبته، ويدعى بكف بأسه عن المسلمين، ومنه أخذ جمعٌ من أهل العلم تحريم لعن الكافر المعين، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نُهي عن ذلك، أما الدعاء على الكافر فإنه يشرع ولا حرج، ولكن الأفضل والأكمل أن يدعا بصلاحه وبهدايته إن أمكن ذلك.

وبناءً على هذا فالقنوت يشرع عند وجود النوازل، والنوازل المراد بها المصائب والنكبات، كأن يعتدى على أعراض المسلمين، أو على دمائهم، أو يضيق بهم الحال في كربٍ أو خطب، فيلجأون إلى الله بالدعاء، وهذا هو الأصل الذي دعا الله إليه عباده فقال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:٤٣]، والمسلمون (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

ولا يبلغ المسلم حقيقة الإسلام، ولا يبلغ المؤمن حقيقة الإيمان إلا إذا بلغ به الحال أنه إذا بلغه ضرر بأخيه المسلم أحس به كما يحس به أخوه المسلم أو أشد، ولذلك كان بعض العلماء رحمة الله عليهم إذا بلغه المصاب في المسلمين، أو النكبة تحل بالمسلمين تأثر، وربما مرض حتى يعاد في بيته، وهذا من كمال الإيمان، ومما جعله الله عز وجل وشيجة بين المؤمنين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد).

فإذا نزلت المصيبة بالمسلمين هنا أو هناك شرع أن يقنت، وأن يدعا بالنجاة والسلامة لمن ابتلي، وكذلك يدعا بكفّ بأس الذين ظلموا عن المسلمين، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك فهذا القول يعتبر أعدل الأقوال، وفيه جمع بين النصوص، خاصةً وأنه أعمل السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحالة التي فعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم القنوت.

وبناءً على ذلك يشرع القنوت للنوازل في دفع ضرر عام أو خاص على بلاد المسلمين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>