[الاعتبار في تقدير الزكاة عند الحول]
[وتُقوَّم عند الحول بالأحظ للفقراء من عين أو ورِق].
(وتقوّم) أي: عروض التجارة.
من المعلوم أن عروض التجارة في الغالب -سواء كانت من العقارات أو المنقولات- تحتاج إلى معرفة القيمة، فهناك قيمتان: القيمة الأولى: التي اشتريت بها، والقيمة الثانية: التي تعرضها أو تعرض بها الشيء المبيع، فلو أنك اشتريت عشر سيارات لعرضها للتجارة، وقيمتها -مثلاً- في الأصل حينما اشتريتها مائة ألف، ولكنك حينما عرضتها للبيع عرضتها بمائة وخمسين، فحينئذٍ يجب عليك اعتبار سعر البيع، وأما قيمة الأصل فإنها ليست بقيمة؛ والسبب في هذا أن الذي تعرضها به للبيع يعتبر مالاً في الحكم، أي: كأنك مالك لهذا القدر، وأما الذي اشتريت به فإنه لا يؤثر لكونه غير مستقر، وحينئذٍ يستوي أن يكون زائداً عما تعرض به، أو يكون ناقصاً عنه، فلو أنك اشتريت (بمائة ألف) وتريد أن تبيع (بخمسين ألفاً)، أو انخفض السعر حتى أصبحت تباع (بخمسين)، فالقيمة (خمسون)، ولو أنك اشتريت (بخمسين) ثم ارتفعت قيمتها، وعرضتها (بمائة)، فالقيمة مائة، وقس على هذا.
وتقوّم بالأحظ للفقراء، فيُنظر إذا كان الأحظ أن تقوم بالدراهم قُوِّمت بالدراهم، وإن كان الأحظ أن تقوم بالدنانير قوِّمت بالدنانير.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يُعتبر ما اشتريت به].
(ولا يعتبر) أي: في القيمة والتقدير والتقويم (ما اشتريت به)، وفي ذلك أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه أمر أن تقوَّم عروض التجارة بقيمتها، أي: في حالها، وهذا يدل على أن العبرة في عروض التجارة بقيمة البذل لا بقيمة الشراء، وقد بيّنا أن السبب في هذا أنك إذا عرضت الدار -مثلاً- أو الأرض للبيع، وكانت القيمة التي اشتريت بها مائة وتعرضها بمائة وخمسين، فأنت في الحقيقة بمثابة المالك للمائة والخمسين، ولكن يرد
السؤال
لو أن هذا الشيء المعروض للتجارة فيه اضطراب، أي: لا يثبت على قيمة معينة، فأنت تقدِّر أن أقل ما تبيع به هذه السيارة هو مائة وخمسون، ولكنك إذا جئت تعرض تقول: مائة وسبعون أو مائة وستون، فهل العبرة بأكثر ما تطلبه، أم العبرة بأقل ما تطلبه أو ترضى به؟ أولاً: قضية سوم الأشياء بأعلى من قيمتها حتى تنزل، فيه حديث أم أنمار رضي الله عنها، فإنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أنها إذا أرادت أن تشتري الشيء سامته بأقل من قيمته، فلا تزال مع صاحبه حتى يبلغ قيمته فتشتريه، وإذا أرادت أن تبيع الشيء سامته بأكثر من قيمته حتى يبلغ القدر الذي ترضى به فتبيع، فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا، فكره بعض العلماء مثل هذا.
ولكن الصحيح أنه يجوز؛ لأن هذا الحديث متكلّم في سنده، وقد ذكره الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه في الإصابة، وأشار إلى سنده، وله أصل في سنن ابن ماجة.
والصحيح: أنه يجوز للإنسان أن يسوم بالأكثر والأقل، والأفضل له أن يجتزئ بأقل الأرباح حتى يضع الله له البركة فيما يأخذ، وهذا مبني على عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع)، قالوا: السماحة في البيع أن يرضى بأقلّ الربح.
ثانياً: إذا قلنا: إنه يشرع أن تسوم بالأكثر حتى تبلغ الأقل، فحينئذٍ نحن بالخيار بين ثلاثة أمور: إما أن نقول: العبرة بالأكثر لأنها تسام به، وعُرضت متاجرةً بهذا الأكثر، وكونه يرضى بالأقل، هذا شيءٌ رضي خسارته على نفسه، فلا نرضى خسارته على الفقراء والمساكين.
وإما أن نقول: العبرة بالأقل؛ لأنه هو اليقين، والقاعدة في الشرع: (أن اليقين لا يزال بالشك)، فالأصل أن الذي يبيع به وتُقدَّر به السلعة ويرضى به المشتري في الغالب هو الأقل، فحينئذٍ نقول على هذا الوجه: العبرة بالأقل.
وإما أن نقول: العبرة بما بينهما.
والذي يترجح من هذه الثلاثة الأمور القول: بأن العبرة بالأقل؛ لأنه اليقين، وهذا أصل طرده العلماء رحمة الله عليهم في كثير من المسائل.
وعليه: فإنه إذا كان يعرضه بمائة ويرضى بتسعين فالعبرة بالتسعين.
وقال بعض العلماء: الورع أنه ينظر إلى السوق، فإن كان السوق رائجاً حتى يصير بالأكثر، فإنه يقدره بالأكثر، وإن كان بالأقل فلا حرج أن يقدره بالرخصة بالأخذ بالأقل.
قال المصنف رحمه الله: [وإن اشترى عرضاً بنصاب من أثمانٍ أو عروض بنى على حوله].
أي: بنى على حول الشراء، ما دام أنه اشتراه بنية التجارة، وهذه المسألة الأصل فيها ما ذكرنا أن من دخل إلى التجارة برأس مال واشترى بها عروضاً ثم باعها قبل تمام الحول، فإن العبرة بالأصل، أي: بالثمن، ولا يلتفت إلى هذه العروض؛ لأننا لو قلنا بهذا لما استطعنا أن نزكي عرضاً للتجارة إلا في القليل النادر، وتوضيح ذلك: أن من دخل بمائة ألفٍ يريد أن يتاجر بها في شهر محرم، فاشترى بها عشر سيارات -مثلاً- فعرضها للبيع، فبيعت في منتصف العام، واشترى أخرى مكانها، فقد يقول قائل: الأول قد انقطع بالبيع، والثاني يستأنفه بالشراء من منتصف الحول، نقول: لا، العبرة بالأصل، فحينئذٍ هذه المائة ألف لما تمحّضت للمتاجرة فإننا نقول: العبرة بحولها، فإذا اشترى وأدخل وأخرج، فهذا كله تابع لأصله، يبني عليه، وتجب عليه زكاته كما ذكرنا.
[وإن اشتراه بسائمة لم يَبْنِ] وهذا بناءً على أن زكاة السائمة غير زكاة الأموال المعروضة للتجارة؛ لأنه انتقل من أصل إلى أصل، فالسائمة إذا قطعها بالبيع لا يبني وإنما يستأنف، مثال ذلك: لو كان عنده من الإبل ما يبلغ النصاب، وتجب عليه فيه الزكاة، وفي منتصف العام باعها، ثم اشترى به سيارات أو أكسية أو أغذية، وعرضها للتجارة، فإننا نقول: السائمة لها زكاة مستقلة، وعروض التجارة التي هي الأكسية والأغذية لها حول مستقل، فيستأنف الحول من جديد، ولا يبني على الحول الأول لاختلاف الأصلين، فأصل السائمة شيء، وأصل عروض التجارة شيءٌ آخر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.