للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الوقف عقد لازم لا يجوز فسخه]

الوقف من العقود التي تلزم الواقف ولا يملك الرجوع عنه، فلو قال: أوقفت داري هذه على المساكين، فإنه إذا صدر الوقف على الوجه المعتبر لم يملك الواقف الرجوع عن وقفه، وليس من حقه أن يُبطل هذا الوقف إذا تم صحيحاً معتبراً شرعاً.

ولذلك قال المصنف: [والوقف عقد لازم] الوقف عقد، وقد تقدم أن العقد ربط أجزاء التصرف.

وربط أجزاء التصرف يكون بالإيجاب والقبول، مثل: أوقفت داري عليك، فقال: قبلت، فهذا عقد وقف، فإذا تم عقد الوقف على الوجه المعتبر شرعاً فإنه لازم، وقد أجمع العلماء من حيث الجملة على أن الوقف عقد لازم، والدليل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه - عمر بن الخطاب رضي الله عنه- في قصته حينما أوقف بستانه بخيبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن شئت حبّست الأصل، وتصدّقت بالثمرة، غير أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث).

فإذا تأملت قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث)؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه بالصدقة التي خرجت منه، ونقل ملكيتها عنه، بدليل أنه لم يصحِّح بيعها بعد ذلك، ولا هبتها ولا أي تصرف فيها، فقال: (غير أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث).

فقوله: (لا يباع ولا يوهب)، وهذا تصرُّف في الحياة، (ولا يورث) لما يكون بعد الموت، وبناءً على ذلك فإنه ألزمه بما يصدر منه من الوقفية، فدل على أن عقد الوقف لازم.

فالعلماء مجمعون على هذا، لكن هناك خلاف عند بعض أهل العلم رحمهم الله حيث قال: يجوز للواقف أن يرجع عن وقفه بشرطين: الشرط الأول: ألا يقضي قاض بهذا الوقف.

والشرط الثاني: ألا يكون وصية بعد الموت.

فإذا أوقف داراً أو مزرعة ولم يجعلها كوصية، وقبل أن تُرفع إلى القاضي فيحكم بالوقفية، فإن من حقه أن يرجع، وهذا القول هو قول الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ويحكيه العلماء -ولا أعرف له سنداً صحيحاً- عن علي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع، لكن المشهور أن الذي خالف في هذه المسألة هو الإمام أبي حنيفة رحمه الله، أما جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله فإن الوقف عندهم لازم مطلقاً، لا يملك الواقف الرجوع عنه.

والذين قالوا: إنه من حقك أن ترجع عن الوقف ما لم يقض به القضاء، أو يكن وصية، استدلوا بحديث عبد الله بن زيد الأنصاري صاحب الأذان رضي الله عنه وأرضاه أنه تصدق ببستان، ثم جعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: جعل النظر فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما رُفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء أبواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالا: يا رسول الله إنه لا مال لنا، أو لا طُعمة لنا إلا من هذا البستان، وقد تصدق به، فرد عليه الصلاة والسلام صدقته وجعلها لوالديه.

وهذا الحديث رواه المحاملي وغيره، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل وقفية عبد الله بن زيد رضي الله عنه لمزرعته، فدل على أن الوقف ليس بلازم، وأن من حقك أن ترجع عن الوقف، ورد الجمهور بأن هذا الحديث على فرض صحته فيه إشكالان، الإشكال الأول أنه قال: تصدَّقَ، والرواية (جعله صدقة)، والصدقة غير الوقف؛ لأن الصدقة قد تكون من الإنسان تبرعاً لا يقصد به الوقفية بل يقصد فيه مطلق الهبة.

والإشكال الثاني وهو الأقوى في

الجواب

أن الحديث نفسه فيه: (وجعل الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم) فمعناه أنه جعل إمضاء هذه الصدقة على هذا الوقف مشروطاً بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رُفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبتّه صدقة، ولم يبته وقفاً؛ لأنه معلق على رضاه، وحينما اشتكى له والداه صرفه عليه الصلاة والسلام إلى والديه، ولذلك وُرث البستان من بعد ذلك كما جاء في الرواية.

هناك أجوبة أخرى لكن في الحقيقة لا يقوى هذا الحديث على معارضة الحديث الذي معنا.

فإن قال قائل: إننا قدّمنا أن لفظ (تصدقت) يُعتبر من ألفاظ الوقف، فالجواب عنه: أن اللفظ جاء في الحديث وصفاً ولم يأت وقفية، ولذلك قال: (جعلها صدقة)، وفرق بين أن يكون من كلام عبد الله بن زيد (جعلتها صدقة) وبين أن يُحكى أنه تصدق بها، فهناك فرق بين اللفظين، ومن هنا يقوى مذهب جماهير السلف والخلف أن الوقف لا يملك صاحبه الرجوع عنه، وأنه إذا صدر على الوجه المعتبر شرعاً فإن العقد به لازم.

قال رحمه الله: [والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه] فقوله رحمه الله: (لا يجوز فسخه) الفسخ: الإزالة، وقد تقدم معنا أن فسخ العقود إبطالٌ لها، وأننا إذا حكمنا بفسخ البيع فقد أبطلناه، وإذا أبطلناه أوجب هذا الحكم أن نرُد الثمن للمشتري، والمُثمن للبائع، هذا بيّناه فيما تقدم معنا في البيع.

ولذلك قال رحمه الله: (والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه): أي لا يجوز للقاضي أن يفسخ وقفاً إذا ثبت على الوجه المعتبر، ولا يجوز للشخص نفسه أن يحكم بأن وقفه باطل، وأنه لا يُعتد به، ما دام أن الوقف صحيح، ولا يجوز له أن يستحل من هذا الوقف ما لا يُستحل من الأوقاف باسم أنه مفسوخ أو أنه باطل، كأن يقول: هذا الوقف أبطلته أو فسخته، أو مزرعتي التي أوقفتها رجعت عن وقفيتها أو أبطلتُ وقفيتها أو فسخت وقفيتها.

وكل هذا شرطه أن يكون الوقف قد استجمع الصفات المعتبرة شرعاً للحكم بصحته ولزومه واعتباره شرعاً، كل هذا إذا ثبت في الوقف فلا يجوز فسخه، وإذا قيل: لا يجوز فسخه فمعناه أنه لو قضى قاض بأن هذا الوقف فاسد وفسخه، دون أن يكون عنده مبرر شرعي للفسخ؛ فإن قضاءه لاغٍ، والحكم به باطل ويأثم شرعاً.

وكذلك الواقف لو قال: مزرعتي التي أوقفتها أبطلت وقفيتها، فيا أبنائي خذوها أو اقسموها ميراثاً، فإنه قد انتهك حدود الله، واستحل ما حرّم الله عز وجل عليه، فقوله: (لا يجوز فسخه)، أي لا يجوز الفسخ لا من الواقف، ولا من أي شخص.

لكن هناك استثناءات في مسألة المناقلة في الوقف، وهذه مسألة مستثناة فنبين أن لها ضوابط، وأنها جائزة عند الضرورة والحاجة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>