[الربا في غير الأصناف الستة المنصوص عليها]
أما الأصناف التي سكت عنها الشرع، فجماهير السلف رحمة الله عليهم ومنهم الأئمة الأربعة على أنه يجري فيها الربا ولكن بشروط، وخالف في ذلك الظاهرية رحمهم الله، فقالوا: لا يجري الربا إلا في الأصناف الستة.
ومذهب الجمهور هو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر هذه الأشياء ذكرها أصولاً لغيرها، فذكر البر والشعير أصلاً للحبوب، فتقيس الأرز الموجود في زماننا والدخن والعدس والفاصوليا واللوبيا وغيرها من الحبوب ونحوها على البر والشعير.
كذلك أيضاً ذكر التمر لكي يقاس عليه الزبيب، والعسل، والحلوى، مما يباع كيلاً أو وزناً من جنس المطعومات، فجعلها أصلاً لغيرها.
وجعل ذكر الملح لكي يقاس عليه ما يستصلح به الطعام؛ كالأدقة ونحوها مما يوجد من البهارات الموجودة في زماننا.
إذاً: ليس من فراغ جاء قوله عليه الصلاة والسلام: البر والتمر والشعير والملح، إنما جاء تنبيهاً على المثل، ولذلك صح عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: (وكذلك ما يكال ويوزن)، وهو صحابي جليل فجعل ما يكال ملحقاً بالأصناف الأربعة المنصوص عليها كيلاً، وجعل ما يوزن ملحقاً بالمنصوص عليه من الذهب والفضة؛ لأنه كان يباع وزناً.
إذا علمنا أن الأصح أن الربا يجري في غير هذه الأصناف الستة، فلو سأل رجل عن الأرز الموجود في زماننا، أو سأل عن البرتقال أو التفاح أو الموز، وهذا من جنس المطعومات، أو سأل عن غير الطعام كالحديد أو النحاس أو الألمنيوم أو غيرها من المعادن، هل يجري فيها الربا أم لا؟ بمعنى: لو باع الرجل حديداً متفاضلاً؛ كطن من الحديد الصلب -وهو أجود أنواع الحديد- بنصف طن من الحديد الزهر، وهو رديء، فقال: أردت أن أبادل الحديد بالحديد متفاضلاً، فهل يجوز أم لا يجوز؟ كذلك يسأل الناس في زماننا هذا -ونحب أن نمثل بأمثلة موجودة الآن حتى يكون التطبيق واضحاً- فلو سأل عن ثلاجة بثلاجتين، أو سيارة بسيارتين، هل هذا من الربا؟ والسؤال عن الربا إنما يكون عند الزيادة؛ بل ربما يسأل: القلم بقلمين أو الدفتر بدفترين هل يجري فيه الربا أم لا؟ فكل واحد يسأل عما أشكل عليه أو وقع فيه، ومن هنا تسأل عن كل صغيرة وكبيرة موجودة في زمانك، فإن الموجود في زماننا أكثره غير منصوص عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الذي لم ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما كان من جنس المطعومات.
القسم الثاني: ما كان من غير جنس المطعومات.
مثال ذلك: لو أخذنا الحلوى الموجودة في زماننا وبعناها من جنس غير المطعومات، مثل الثلاجات أو الحديد أو النحاس، فهل يجوز بيع هذه الأشياء إذا اتحدت أصنافها متفاضلة؟ هذا يحتاج إلى تفصيل.
وتوضيح ذلك أن يقال: نأخذ أولاً غير المطعومات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بها، فقال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة)، فذكر لنا الأصل في غير المطعوم، وهو الذهب والفضة، فإن الله حرم بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل؛ لمكان العدل، فإنه إذا باع الذهب بالذهب متفاضلاً، فهنا يوجد ظلم.
ومن هنا قال طائفة من العلماء رحمهم الله، وهو رواية عن الإمام أحمد، وذكر المرداوي رحمه الله صاحب الإنصاف أن المذهب عليها، وهو مذهب الحنفية أيضاً: أن العلة في الذهب والفضة الوزن، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب وزناً بوزن، والفضة بالفضة وزناً بوزن)، فكأن مقصود الشرع حصول التماثل بالوزن، فما كان يوزن من غير المطعومات فلابد فيه من التعادل والتكافؤ في الوزن.
ومن هنا إذا باع الموزون بالموزون مع اتحاد الصنف وقع الظلم، وقالوا: إن الموزونات من غير الذهب والفضة تقاس على الذهب والفضة، فلا يجوز بيعها متفاضلة مع اتحاد الصنف، فلو سأل رجل وقال: عندي عمارة وأريد أن أبنيها، فأخذ لها قطعة حديد من الرديء، وجاءه رجل وقال: هذا الطن الذي هو ألف كيلو عندك أريد أن أبادله بنصف طن من الصلب الذي هو أجود عندي، فهل يجوز أم لا يجوز؟ نقول: لا يجوز بيع هذا الحديد بمثله متفاضلاً؛ لأنه موزون، قياساً على الذهب والفضة.
كذلك لو سأل عن النحاس -وقد جرى العرف ببيعه وزناً- عن طن منه بنصف طن، أو طن بطن ونصف، فنقول: لا يجوز؛ لأنه موزون؛ كما لا يجوز بيع الذهب بالذهب متفاضلاً.
لكن لو أن غير المنصوص عليه -الذي قسناه على الذهب والفضة الذي هو الحديد والنحاس ونحوها من المعادن- لو دخلت فيه الصنعة فأخرجته عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مذروعاً فما الحكم؟ من باب المناسبة حتى يكون الحكم واضحاً: الوزن مثل الغرامات، ومثل الكيلو والطن، ونحو ذلك، والكيل كالصاع واللتر، فإن اللترات تسمى كيلاً، فلا يفهم البعض أن الكيل هو الكيلو غرام؛ بل الكيل مثل الصاع والمد والرطل، ونحوها كاللترات الموجودة في زماننا.
فهناك ما يباع عدداً كالسيارة، فإن السيارة لا تباع وزناً ولا كيلاً ولا بالذرع، وإنما تباع بالعدد، فتقول: أريد سيارة بسيارتين، والإبل والبقر والغنم كلها تباع بالعدد، فعندنا أشياء تباع بالوزن، وأشياء تباع بالكيل، وأشياء تباع بالعدد، وأشياء تباع بالذرع.
والذرع مثل القماش فإنه يباع بالمتر، وكذلك المخططات في الأراضي تباع بالذرع، فالشيء الذي يباع بالوزن من غير المطعوم لابد أن يكون مثلاً بمثل، لكن لو دخلت فيه الصنعة فأخرجته عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مزروعاً، مثال ذلك: لو أن رجلاً عنده طن من الحديد، ثم أخذ هذا الطن فقطعه قطعاً وأوصالاً بالأمتار، وأصبح يبيع مثلاً المتر بكذا، وحينئذٍ خرج عن كونه مباعاً بالوزن إلى كونه مباعاً بالذرع.
كذلك أيضاً قد يباع بالعدد، كأن يبيع بالواحدة أو بالاثنتين أو بالثلاث، وكما لو أخذ الحديد فصنعه سيارة، أو أخذ الحديد فصنعه ثلاجة أو غسالة أو نحو ذلك، فأخرجته الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مذروعاً، فما الحكم؟ قالوا: إذا أخرجته الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مذروعاً جاز التفاضل وحرم النسأ، فيجوز أن يبيع القطعة بالقطعتين، والسيارة بالسيارتين وبالثلاث وبالأربع؛ لأن المعدودات قد يحصل العدل فيها مع اختلاف العدد، فالبعير الواحد قد يعادل ثلاثة أبعرة، ومن هنا قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ البعير بالبعيرين والفرس بالأفراس إلى إبل الصدقة)، وهي معدودات، فأجاز في المعدود التفاضل، وبناءً على ذلك قالوا: إذا أخرجته الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً فإنه يجوز فيه التفاضل.
ولو سأل سائل فقال: هل يجوز بيع السيارة بالسيارتين؟ فنقول: نعم؛ لأنها ليست من جنس الربويات فتأخذ حكم الربوي، أعني: أن التفاضل فيها مغتفر، كالغسالة بالغسالتين، أو الثلاجة بالثلاجتين، فأي شيء من غير المطعوم إذا كان غير موزون جاز فيه التفاضل.
كذلك في الخشب: وهذا يقع حينما يشتري الخشب مثلاً بالوزن وهو خام لم يقطع ولم يفصل، فأراد أن يبادله بمثله، فهذا لا يجوز إلا مثلاً بمثل، لكن لو أن هذا الخشب يباع بالعدد، مثل ألواح الأبلكاش فإنها تباع بالأذرعة: المتر والمتر والنصف، وتباع بالعدد فيقول: اللوح واللوحان والثلاثة، وكل عشرة بكذا.
فخرجت عن كونها موزونة، فعندما تأتي وتشتري ألواح الخشب فلا تسأل: كم وزنها؟ إنما تقول: أريد لوحاً أو لوحين من صنف كذا وكذا، فإنه صار من جنس المبيعات بالعدد، فإذا أخرجت الصنعة الموزون إلى كونه معدوداً أو مذروعاً، جاز التفاضل، وحينئذٍ فلا يكون من جنس الربوي المنصوص عليه من كل وجه.
وهناك قول ثانٍ في ثبوت العلة في الذهب والفضة وهو أن العلة هي الثمنية، أي: كونهما رءوساً للأثمان، وقيماً للأشياء، والثمنية يسميها علماء الأصول: علة قاصرة، ولا يقاس عليها غيرها؛ لأن الله جعل في الذهب والفضة خصيصة، كما نبه على ذلك الإمام المقدسي رحمه الله في مختصر منهاج القاصدين.
وهذه العلة يقول بها الجمهور من المالكية والشافعية، وهي رواية عن الإمام أحمد: أن الذهب والفضة جرى فيهما الربا لكونهما ثمناً للأشياء وقيماً لها، وهذه العلة القاصرة مختلف فيها عند علماء الأصول، فبعضهم لا يرى التعليل بها، ولذلك يقول صاحب المراقي: وعللوا بما خلت عن تعدية ليعلم امتناعه والتقوية ومذهب الجمهور على أنه يجوز التعليل بالعلة القاصرة، لكن إذا قلنا: العلة في الذهب والفضة هي الثمنية، بناءً على القول الثاني، فإن الربا عندهم لا يجري في غير الطعام أياً كان ذلك، ولو كان موزوناً، إلا في الذهب والفضة.
فعلى مذهب الجمهور فبيع الطن بالطنين من الحديد يجوز، وبيع الطن بالطنين من النحاس يجوز؛ لأنهم لا يرون جريان الربا في غير المطعوم إلا في الذهب والفضة فقط.
وأما بالنسبة للمطعومات فقد اختلف العلماء رحمهم الله في علتها على أقوال: - فقيل: الكيل، كما هو مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد.
- وقيل: الطعم، كما هو مذهب الشافعية، ورواية أيضاً عن الإمام أحمد.
- وقيل: القوت والادخار، كما هو مذهب المالكية.
- وقيل: الطعم مع الكيل أو الوزن، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال بها بعض السلف، كما هو قول سعيد بن المسيب وطائفة، وهو أرجح الأقوال.
أما الطُعم فلنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل، فهذا حديث معمر بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه يدل على قوة قول القائل: إن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن.
وبناءً على هذا القول -أن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن- فكل طعام ينظر فيه: إن كان يباع كيلاً أو وزناً جرى فيه الربا من الوجهين عند اتحاد الصنف، وإن كان يباع عدداً لم يجر فيه الربا.
فمثلاً: الطعام مثل الأرز الموجود في زماننا، يباع وزناً وكيلاً بأن تضعه في الصاع، فتقول: صاع من الأرز أو صاعان، ونحو ذلك.
أيضاً يباع الطعام عدداً كالبطيخ، فتقول: أعطن