للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نصيحة لطالب العلم بدراسة كل عقد على حدة]

السؤال

أشكلت علي مسألة العقود أيها لازمة وأيها جائزة، فما هو الضابط في ذلك؟

الجواب

الحقيقة مسألة الضوابط ومسألة تقرير العلم لا ينبغي لطلاب العلم أن يشتغلوا بها كثيراً، فلابد أن تتعب وتحفظ وتدرس كل عقد على حدة، وأنت بنفسك تضع جدولاً لما درست وتعلمت، لأنه قد أقول لك اليوم -مثلاً- يترجح عندي أن عقد كذا لازم للطرفين ثم يترجح أمر آخر بعد ذلك، ليس هناك أفضل لطالب العلم من أن يضبط بنفسه.

وكان الوالد رحمة الله عليه يعتني كثيراً بعدم إعطاء الضوابط والقواعد، وإن كان سهلاً إعطاؤها، لكن يقول: أريدك أن تتعب، أريدك أن تدرس كل شيء على حدة.

فمثلاً: استيفاء القصاص، إذا قال له: استوفِ لي القصاص.

وأجره من أجل أن يستوفي القصاص ودفع له المال، كما كان يجري في القديم -ونحن ما جئنا إلى باب استيفاء القصاص، ولكن يمكن أن أعطيك إياه كمثال على أنه عقد جائز في أول الحال لازم في ثاني حال -مثلاً- ثم يتبين لي أنه لازم في أول حال.

فلذلك لذة العلم وحلاوته في التعب والنصب، فتدرس كل شيء على حدة، وتضع بقلمك شيئاً فهمته وشيئاً قرأته وشيئاً ضبطته، وعرفت ما ترتب على لزومه، وتأخذ كل شيء.

صحيح ممكن أن يكون هناك لازم ثم يكون هناك مستثنيات للجواز، أو جائز ومستثنيات للزوم، فهذا أمر يستفاد منه.

لكن يفضل لطالب العلم أن يتعب، وكان والدي رحمه الله كثيراً ما يعتني بهذه القضية، حتى من الغرائب أن المعجم المفهرس لألفاظ الحديث لم يدخل مكتبة الوالد رحمه الله حتى توفي؛ والسبب في هذا أنه: قال: إنه يعود طالب العلم الكسل.

ولا شك أننا نستفيد من المعجم وغيره وأنه يختصر وقتاً طويلاً، لكن يقول: تذهب وتفتح دواوين السنة، وتخرج الحديث، وتكتحل عينك بالسهر، ويُضنَى جسدك حتى تصل إلى الشيء، وتتعود من -كثرة التخريج والرجوع إلى معرفة النسخ- على معرفة طريقة الترتيب للأحاديث واختلاف الألفاظ واختلاف الرواة وتعدد الطرق، هذا هو الذي يكشف لطالب العلم ويجعل عنده ملكة قوية.

وذكروا عن بعض أهل العلم رحمهم الله أنه كان مولعاً بالكتب، وكان شغوفاً بجمعها، وكان في القديم يتعذر عليه نسخ الكتب؛ لأنهم كانوا يجدون مشقة كبيرة في ذلك، وكان هذا من العلماء المشهورين، وسافر ذات مرة وتعرض اللصوص للقافلة التي هو فيها، فأخذوا جميع ما في القافلة، فجلس يبكي على كتبه، وجاء على قائد الأعداء وقال له: كل ما تريد أعطيك وأعطني كتبي.

قال له: ماذا تريد بكتبك؟ يعني: لماذا أنت تعتني بهذه الكتب؟ قال: لأن هذه الكتب هي علمي وحصيلة عمري.

فقال له: علم تحمله وتخاف عليه ليس بعلم! بمعنى أنه يمكن لطفل أن يأتي ويشعل ناراً في الكتب فينتهي هذا العلم، فهو ليس بعلم، بل العلم ما حوته الصدور لا ما كتب على السطور، العلم هو علم الرجل في قلبه، فعندما يذهب بنفسه ويتعب، بخلاف ما إذا جاءه سهل ميسر من حصيلة غيره، فيقلد كلام غيره، وقد يقع السقط والتصحيف والتحريف، فالمطلوب من طالب العلم أن يكون على مرتبة من قوة الشخصية والعناية في البحث والتقصي والتعب، ولا شك أن هذا فيه عظيم الأجر والثواب، ثم تتربى كذلك في طالب العلم الملكة.

ثم لا يستعجل، لأنك عندما تدرس عقد الإجارة، وهل هو لازم أو غير لازم، وتدرس اللزوم في عقد الإجارة، وما يتفرع عن هذا اللزوم في عقد الإجارة، يصفو ذهنك وينحصر تركيزك على جزئية معينة ألممت بها وأدركت آثارها ومحاسن الشريعة في الإلزام بها، وذلك خير مما إذا جمعت لك خمسة عشر أو عشرين عقداً.

مثلاً: عندنا عقود لازمة للطرفين، وعندنا عقود لازمة لأحد الطرفين، وعندنا عقود جائزة للطرفين، وعندنا عقود جائزة في أول الأمر لازمة في آخر الأمر، وكلها عقود فيها خلافات وفيها أقوال، وهي لا تقل عن ثلاثين عقداً، وذكرها لك صعب جداً.

ولذلك: ينبغي لطالب العلم أن يدرس كل جزئية على حدة، ولا شك أنه أتم وأكمل، وكان بعض العلماء رحمهم الله يقول: دراسة قواعد الفقه وضوابط الفقه تكون بعد الانتهاء من متن الفقه؛ لأنك إذا انتهيت من المتن كاملاً تجمع الشتات الذي قرأته وتضع له ضوابط، لكن من البداية تأخذ هذه القواعد، فهذا يشتت طالب العلم كثيراً، ولا شك أنها قد تضر بمصالحه.

وأنا أطيل في هذه الجزئية لأنها منهجية، وكنت أنبه كثيراً على أن الأفضل أن يدرس طالب العلم كل عقد على حدة قبل العناية بالقواعد والضوابط، وخاصة إذا كان قد التزم الفقه على منهج أو على طريقة، فبإذن الله عز وجل يكون ذلك أفضل وأكمل.

ثم إذا قرأت كل عقد وأدركت وجه الفرق بين العقود، وأصبح عندك نوع من الفهم: لماذا أصبح جائزاً هنا ولازماً هنا، ولماذا لزم الطرفين هنا ولم يلزم هنا، ولماذا لزم أحد الطرفين دون الآخر؟ حتى تنجلي وتنقدح عندك الأسرار والعلل في التفريق بين هذه العقود.

ومن الفوائد التي ذكروها: أن العقود التي فيها غرر ومبنية على الغبن المحض -مثل: عقد الإجارة وعقد البيع- فالغالب لزومها، وأن العقود المتمحضة في الرفق والتي ليس فيها غبن الغالب جوازها، مثل الهبات والعطايا، ولكن العقود التي يكون فيها الغبن في حال والرفق في حال تكون لازمة في ثاني الحال لا في أول الحال، وقس على هذا اختصاراً.

لكن إذا درس كل عقد على حدة فلا شك أنه أضبط وأمكن.

ونسأل الله عز وجل أن يفتح علينا وعليكم فتوح من أراد وجهه وابتغى ما عنده، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>