أما مسألة الدين في الجمعيات، فإن الجمعية -إذا جئت تنظر إليها- في الواقع هي قرض جر نفعاً، فلو دخلنا الجمعية بخمسة آلاف ريال، فكل شخص يدفع الخمسة آلاف على شرط أن يدينه الثاني أو يدين من يدينه، فأنت إذا دفعت الخمسة آلاف وكل شخص دفع خمسة آلاف، فمعناه أن محمداً الأول هو الذي سيأخذ مجموع المال، فكأنك دفعت الخمسة آلاف لمحمد من أجل أن يقضك ويقرض الباقين أيضاً، ودفعتها لأولئك الأربعة الباقين بنفس الشرط، فصار قرضاً جرَّ نفعاً، ولو علمت أنهم لا يعطونك لامتنعت، فإذاً: أنت لم تدفع المال إلا من أجل أن تستفيد من قوة المبلغ، والدين إنما يدفع من أجل الرفق بالمديون، وقد أجمع العلماء على أن الدين عقد رفق.
ومن هنا حرم أن يستفيد المدين، فأنت إذا دفعت الخمسة آلاف مع زيد وعمرو وخالد لمحمد، كأنك تقول: يا محمد! خذ مني الخمسة آلاف الآن بشرط أن تعطي الشهر القادم خمسة آلاف لزيد، والذي بعده لعمرو، والذي بعده لبكر، فلو علمت أنه يمتنع لما دفعت ولما أعطيته، وهذا يقتضي المنع، فصار قرضاً جر نفعاً، وإن قلنا: إنه دفع خمسة آلاف وأخذ خمسة آلاف {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}[البقرة:٢٧٩] يقولون: دفع ديناً وأخذ عين الدين، فإن وجدت من يجيز ويفتي بالجواز فإنه يرى أنه دفع خمسة آلاف وأخذ الخمسين ألفاً ورد لكلٍ دينه بدون زيادة، وإن وجدت من يحرم وجدته يرى شبهة زائدة على الارتفاق وهي كونه يدين بشرط، وهذا سلف وشرط، فصار قرضاً بشرط فيه منفعة، إما له حقيقة أو تبعاً، فحقيقة من جهة أنه سيستفيد الخمسين ألفاً، وتبعاً كأنه يقول: يا محمد! أقرض من أقرضني، وأعط لمن أعطاني كما أنني أعطيتك.
وعلى هذا أقول: إنها من جنس المشتبه، فلا أقوى على الجزم بالتحريم؛ لأن فيها شبهة من الحلال، وفيها شبهة من الحرام، فإذا جئنا ننظر إلى وجود الشرط فهذا شبه من الحرام، وإذا جئنا لمضمون الشرط مع أنه لا يأخذ إلا رأس ماله لقلنا بالجواز، فأنا أقوال: إنه من المشتبه، وأنا ما أفتيت بحلها يوماً ولا بحرمتها، ولكن أرى أنها -أي: الجمعيات- من المشتبه الذي لا يفتى بحله ولا يفتى بحرمته، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.