قال المصنف رحمه الله:[وإن قال: أنت طالق وقال: أردت: إن قمت، لم يقبل حكما].
العلماء -رحمهم الله- من دقتهم أنهم يذكرون الأمور المحتملة، فقد يذكر التعليق ويقصده، وقد يذكر التعليق ولا يقصده، وقد لا يذكر التعليق ويقصده، فالقسمة العقلية تقتضي ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يذكر التعليق ويقصده، ففي هذه الحالة اجتمع عندنا اللفظ والنية، فاجتمع الظاهر والباطن على إرادة التعليق، مثال ذلك: أنت طالق إن قمت، فاللفظ لفظ تعليق والنية والقصد أنه تعليق، فالحكم في هذه الحالة أننا نبقى إلى وقوع الشرط.
الحالة الثانية: أن يعلق باللفظ ولكن لم يرد ذلك التعليق ولم ينوه، وسبق لسانه بالتعليق، فنقول: العبرة بنيته، والمرأة طالق بقوله: أنت طالق، فيكون قوله: إن قمت، حشواً ولغواً لا تأثير له؛ لأنه لم يقصد تعليق الطلاق، ويثبت طلاقه.
الحالة الثالثة: أن يقصد ولا يتلفظ، فيقول لامرأته: أنت طالق، ويسكت، وهنا معناه: أنها تطلق منجزاً، فقلنا له: قد طلقت عليك زوجك! قال: لا، أنا قصدت في نيتي: أنت طالق إن قمت، فنوى التعليق بقلبه، فالصورتان الأخيرتان متضادتان، إما أن يكون الظاهر للتعليق والباطن خلاف التعليق أو العكس: أن يكون الباطن للتعليق وقصد التعليق والظاهر لا يريد التعليق، وليس فيه ذكرٌ لصيغة الشرط، فإن تلفظ بالطلاق ونوى في قلبه أنها مطلقةٌ بالتعليق فالعبرة بالظاهر، والباطن لا عبرة به، قال عليه الصلاة والسلام:(إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس)، فالقاضي يحكم بطلاق المرأة مباشرة ولا يلتفت إلى تعليقه، فنحكم بالظاهر؛ لأن هذا هو الأصل، ولو فتحنا الباب لأمكن كل زوج أن يدعي أنه نوى التعليق في قلبه فيقول: لا، أنا قصدت: إن قمت، قصدت: إن طرت، قصدت: إن فعلت، ولربما جاء بالمعجز حتى يخرج من تبعة طلاقه، فهذا بالنسبة للحالة الثالثة وهي: أن ينوي في قلبه التعليق ولا يتلفظ به، والحالة الثانية عكسها: أن يتلفظ بالتعليق ولا ينوي ذلك التعليق قال: لم أرده، ولم أقصده، بل سبق به لساني، فقال بعض العلماء: إذا تلفظ وقال لها: أنت طالقٌ إن قمت، وبينه وبين الله أنه قصد تطليق امرأته في الحال قبل قيامها، وجملة: إن قمت، زلة من لسانه، واعترف بذلك فإنها مطلقة عليه بمجرد قوله: أنت طالق، وهذا لا إشكال فيه، فأصبحت ثلاث صور: إما أن يكون التعليق بالظاهر والباطن، ومثالها أن يقول: أنت طالق إن قمت، أنت طالق إن غربت الشمس، أو إذا غربت الشمس فأنت طالق، إذا جاء الغد فأنت طالق، فحينئذٍ نحكم بكون الطلاق معلقاً على الصفة أو على الشرط الذي ذكره على حسب الأحوال، وأما إذا كان قد تلفظ ولم ينو التعليق، أو نوى التعليق ولم يتلفظ به فالحكم في الحال الأولى: إذا تلفظ بالتعليق ولم ينوه وقال: سبق به لساني، فالعبرة بنيته ولا يلتفت إلى وجود التعليق؛ لأنه لم يرده وسبق به اللسان، فوجوده وعدمه على حد سواء، وأما إن قال: أنت طالقٌ، وقصد التعليق في الباطن فتطلق عليه امرأته على الظاهر ولا يلتفت إلى النية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بالظاهر وقال:(إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس).
وقوله:(لم يقبل حكماً) أي: في القضاء، لكن يقبل فيما بينه وبين الله عز وجل، مثلاً: قالت المرأة: سأخرج، قال: لا تخرجي، قالت: سأخرج، قال: لا تخرجي أنت طالق، ونوى بقلبه: إن خرجت، ففي هذه الحالة يقول جمهور العلماء رحمهم الله: إنها لا تطلق إلا إذا خرجت ديانة بينه وبين الله، لكن إذا رُفع إلى القاضي حكم بالظاهر وقال: زوجتك مطلقة عليك؛ لأنك قلت: أنت طالق، ولم تقل: إن خرجت، فيحكم بكونها طالقاً سواءً خرجت أو لم تخرج، وإذا كان بينك وبين الله أنك لا تطلقها إلا إذا خرجت فننظر: لو أن هذا الرجل قالت امرأته: سأخرج، قال: لا تخرجي، قالت: سأخرج، قال: لا تخرجي، أنت طالق، وقصد أنها طالق إن خرجت ونوى بذلك أنها طالق في ذلك اليوم إن خرجت، ومضى اليوم كله ولم تخرج، فإنها امرأته ولا يحكم بكونها طالقة، فإن غابت شمس ذلك اليوم ولم تخرج فهي امرأته، فلو أن القاضي حكم بكونها مطلقة فتطلق بالظاهر، لكن فيما بينه وبين الله عز وجل أنه لم يرد إلا التعليق ولم تخرج المرأة فإنها امرأته يرثها وترثه وتسري عليها أحكام الزوجية، ولو أنه جامعها؛ فإنه يحكم بكونها امرأةً له فيما بينه وبين الله عز وجل، وحكم القاضي بكونها ليست امرأته حكم في الظاهر، ولكنها زوجه في الباطن، كما لو حكم القاضي بأن بيتك لشخص آخر جاء بشهود كاذبين، فإن البيت بيتك، وملكٌ لك فيما بينك وبين الله، ولا يحل له، وليس من حقه، وإذا علم بذلك من اشترى منه فيكون قد اشترى المغصوب والمأخوذ بالحرام.
فالمقصود أننا نحكم على الظاهر والسرائر نكلها إلى الله، فنفرق بين كونه نوى التعليق أو لم ينو التعليق على التفصيل الذي ذكرناه في الثلاث الصور.