للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أهمية العمل بالعلم]

السؤال

نجد العلماء ينبهون على ضرورة العمل بالعلم، فما معنى هذا؟ وما هو الطريق للحصول على العمل بالعلم وفقكم الله لكل خير؟

الجواب

باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: فالعمل بالعلم درجة عظيمة، ومنزلة شريفة كريمة أحبها الله وأحب أهلها، واصطفى لها خيرة خلقه بعد أنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فأحب الخلق إلى الله بعد الأنبياء والرسل العلماء العاملون، وهم الصديقون الذين جعل الله مراتبهم في الجنة بعد مراتب الأنبياء، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين.

فالعمل بالعلم هو البركة العظيمة، وهو من أصدق الشواهد وأظهر الدلائل على أن هذا العلم مبارك، فالعبد الذي بورك له في علمه تظهر دلائل بركة علمه في جانبين عظيمين: أولهما: عمله بالعلم، وحرصه على ألا يدنس علمه بالمخالفة لله ورسوله حتى لا يمقته الله عز وجل، وإذا مقت الله عبداً فلا تسأل عن حاله والعياذ بالله.

ثانياً: أن يرزقه الله عز وجل نشر العلم، ونفع الأمة، والحرص على دلالتها للخير، ومحبة هذا النصح وهذا التوجيه بنشر العلم قائماً وقاعداً، مسافراً وحاضراً، ينشره بين الصغير والكبير، والجليل والحقير، يحب أن الناس كلهم مثله، وأن الناس أفضل منه في العلم.

فإذا رزق الله العالم هاتين الخصلتين: علماً وعملاً، ودعوة وتعليماً للمسلمين، فقد أتم الله عليه النعمة، وبارك له في العلم، وهذا هو الذي يسأله ولي الله المؤمن حينما يقول: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ومن هنا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بربه جل جلاله من علم لا ينفع.

فمن أظهر الدلائل على عدم نفع العلم أن ينزع الله من صاحبه العمل، وإذا نزع العمل من العلم أصبح صاحبه من الجاهلين، فتجده يخبط خبط عشواء، وتجد علوم العلماء الراسخين من أئمة السلف والتابعين لهم بإحسان منيرة، وأقوالهم واضحة، وحججهم بينة، وألسنتهم ألسنة صدق لا تتلجلج؛ من وضوح الحق وظهوره في صدورهم؛ لأنهم أحبوا العلم من كل قلوبهم، وعملوا به بأبدانهم، أحبته قلوبهم وأجنتهم، ونطقت به ألسنتهم، وعملت به جوارحهم وأركانهم، فأسعدهم الله به في الدنيا والآخرة، فهذه هي سعادة العلم، وهي لذته وسلوته وبركته وخيره، أعني أن يرزق الإنسان العمل به؛ لأنه إذا عمل رأت الناس عمله، ورأت دلائل العلم في سمته وهديه وقوله وعمله وظاهره وباطنه، فصار إماماً هادياً مهدياً، مهتدياً في نفسه هادياً لغيره، وقد جمع الله هذه المنزلة لخيرة عباده فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:١ - ٣] هذا الأساس والقاعدة التي عليها سعادة الدنيا والنجاة من الخسارة، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:٣] فاهتدوا في أنفسهم أولاً، ثم هدوا غيرهم، ولن يهتدي الإنسان في نفسه حتى يعمل بالعلم.

وإذا أراد الله عز وجل أن يبارك لطالب العلم في علمه، فإنه يحتمل همه العمل بعد العلم، أول ما يحمل في العلم الإخلاص، ثم بعد ذلك يحمل هم الجد والاجتهاد في تحصيله وطلبه، ثم إذا رزقه الله الإخلاص والجد والاجتهاد في تحصيله وطلبه، حمل هم العمل بما علم، فإذا وفق للعمل بما علم حمل هم القبول من الله جل وعلا، فإذا وفق في دلائل القبول وظهرت أمارات القبول من حب الله سبحانه وتعالى له، ووضع المحبة في الخلق، وانتشر علمه، وانتفع به الناس؛ ازداد ذلة وانكساراً لربه، فلم يشعر في نفسه حتى يجعله ربه هادياً مهدياً، فينشر العلم بين الناس، ويوطئ كنفه للناس، ويخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين حتى ينتفع الناس بعلمه.

العمل بالعلم المراد به فعل ما أوجب الله عز وجل، وترك ما حرم الله عز وجل مما علم من نصوص الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة:٢٤] فجعل الهداية بالعلم، فلا هداية إلا بعلم، ولا يمكن أن يكون العلم صحيحاً إلا إذا كان معه العمل، قالوا في الحكمة: (هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل).

فأي سنة تتعلمها تحرص على تطبيقها، فإذا سمعت رحمك الله: أن الله يحب الصلاة والمصلين، فمن عملك بعلمك حينما علمت أن أفضل ما تكون الصلاة أن تبكر إليها، فتبكر أول الناس إلى المسجد، إن استطعت أن لا يؤذن للفريضة إلا وأنت في المسجد فقد عملت بما علمت، وإن استطعت إذا دخلت المسجد فصليت أن لا تجلس صامتاً؛ لأنك تعلم فضل الذكر، فتجلس ما بين تلاوة القرآن وتسبيح وذكر لله واستغفار وانكسار لله عز وجل حتى تصلي والملائكة تصلي عليك؛ فقد عملت بما علمت لأنك علمت فضل هذه الأمور فعملت بها.

فإذا صليت رحمك الله ووسعك أن تنتظر الصلاة بعد الصلاة، وسمعت ما ورد من السنة في فضل ذلك فجلست ورابطت واحتسبت الأجر عند الله عز وجل، خاصة إذا كنت من طلاب العلم ومن أهل القدوة فتحرص على أن تكون إماماً لغيرك؛ فإذا حرصت على ذلك فقد عملت بما علمت.

فإذا صليت وأديت الصلاة على أتم وجوهها وجاءتك الفرائض ونوافلها ورواتبها حرصت على الأكمل والأسمى، فانتقلت من السنن الراتبة ومن الوتر إلى إحياء الليل وقيامه، فحرصت على قيام الليل، فلا تمر عليك ليلة إلا قمتها ما لم تكن مسافراً أو عندك عذر، ثم إذا وفقك الله إلى قيام الليل حرصت على الإكثار من النوافل في النهار، وعلمت فضل الوضوء وفضل الصلاة بعد الوضوء، فصرت لا تحدث حتى تتوضأ، ولا تتوضأ حتى تصلي ركعتين، فبورك لك في علمك بالصلاة وفضائلها.

تنتقل بعد ذلك إلى فضائل الصدقات علمت أن الله يحب المتصدقين، وأن الصدقة صدق في الإيمان، وتصديق لما ورد من الرحمن مما يكون من فضائل الصدقة في الدين والدنيا والآخرة، والمراتب العلى في الجنان، فسخى قلبك، وأنفقت يمينك، فأصبحت الدنيا في يدك لا في قلبك، وأصبحت لا تبالي بما تنفق، وأصبح أحب ما يكون عندك أن تلتمس مرضاة الله.

فإذا علمت أن الله يحب منك الصدقة الخفية، فبعد أن كنت تتصدق أمام الناس علمت أن الأفضل أن تخفيها: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:٢٧١] فتنتقل إلى مرتبة الإخفاء، فكنت تتصدق بالنهار ثم صرت تتصدق بالليل، كنت تتصدق مع أناس فإذا بك تحمل الصدقة لوحدك.

ثم بعد الصدقات انتقلت إلى درجة الإيثار، فكنت تتصدق بالفضل، فجاءك أخوك في كربة أو دين أو نكبة وعندك مال، فعلمت أن الله يبتليك، وخرجت من المسجد ورأيت مكروباً منكوباً يقول لك: لله! وليس في جيبك إلا ريال أو ريالان أو عشرة أو عشرون، وهو أشد ما يكون حاجة لها، فعلمت معنى: (لله) أي: أعطني وثوابك على الله، فأعطيته فقد عملت بما علمت.

ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ينزعج إذا قيل له: في سبيل الله، ولا يمكن أبداً أن يبرح حتى يعطي، يقول: لأنه قال لي: لله وفي سبيل الله، ولا يمكن أن أبرح حتى أعطيه؛ لأنه يعلم ما معنى هذه الكلمة.

ففائدة العلم أن يعمل الإنسان بما علم، وأن يعلم كيف يعامل الله سبحانه وتعالى.

ثم تنتقل إلى مراتب أخرى حتى يجعلك الله عز وجل من العلماء العاملين، والله يبتلي طالب العلم من أول خطوة يخطوها، من اليوم تفكر أنك لا تتعلم شيئاً إلا عملت به، ولا تسمع بسنة إلا عملت بها، قالوا: اعمل بالحديث ولو مرة تكن من أهله، حتى إن بعض أئمة الحديث كالإمام البخاري وغيره كانوا إذا قرءوا أحاديث الصدقات جمعوا ما عندهم فتصدقوا بها، لا يحبون أن يمر عليهم أمر من أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في ندب أو طلب أو رغبة أو رهبة أو رجاء إلا حرصوا على تطبيقه والعمل به؛ وعندها ينشرح صدره، ويثبت على الخير قدمه، ولذلك تجد بعض طلاب العلم لا يطلب العلم شهراً أو شهرين إلا وجد نفحات العلم وبركاته في صدره وقلبه وقالبه، تجد فعلاً أن العلم أثر عليه.

وتجد بعض طلاب العلم -نسأل الله السلامة والعافية- إذا دخل في طلب العلم إذا به يحفظ الصغير والكبير، وإذا به أقسى الناس قلباً، وأبعدهم عن الله عز وجل، وتجده يمر على المواقف التي تهز عامة المسلمين ولا يحرك فيه ساكناً؛ لأنه إذا طبع على القلب أو مقت الله صاحبه فلا تسأل عن حاله، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من هذا.

على كل موفق سعيد أن يحرص على أن يكون بينه وبين الله سر، وأفضل ما يكون العمل بالعلم إذا كان بينك وبين الله عز وجل، وأفضل ما يكون وأكمل ما يكون عملك بعلمك حينما يكون بينك وبين الله في أسرارٍ خفية لا يعلمها إلا الله عز وجل.

تجلس مع الناس وتعاشر طلابك وإخوانك وأهل مسجدك كواحد منهم، تسافر معهم وتجلس معهم ولا يشعرون بقيامك في ليلك، ولا بطاعاتك ولا بنفقاتك ولا بأمورك الخفية؛ لأنك تخاف الرياء على نفسك، فإذا خلوت بربك علم الله أن بينك وبينه سراً وهو الخوف الصادق والخشية الخفية، فعندها يبوئك الله مبوأ الصادقين، ويفتح عليك حتى تبلغ درجات العلماء العاملين.

هذه مرتبة.

ثم إذا أراد أن يتم عليك النعمة أوصلك إلى درجة لا تبالي بما أظهرت وأخفيت من عملك، فتصبح عندك السر والعلانية سواء، بحيث إنك لو أظهرت العمل لم تبال بالناس، ولو جلست في محاضرة وفي مسجد تخطب خطبة وأمامك عشرة آلاف، فكأنك جالس وحدك.

هذه كلها مراتب للمخلصين والأئمة المهتدين، ولذلك كان أئمة السلف يضربون أروع الأمثلة في المعاملة مع الله عز وجل.

نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى ووجهه الكريم، أن يجعلنا علماء عاملين أئمة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، إنه ولي ذلك وهو أرحم الراحمين.

وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>