[خير الناس من يحتمل زوجته ويصبر عليها]
فالضرب إذا وقع من الزوج لزوجته، وظهرت آثاره على جلدها، فإن هذا خارج عَمَّا أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى لا يأمر بالضرب على هذا الوجه، إنما المقصود ضرب الأدب، والمرأة تعي هذا الأمر، فليس المراد من هذا استعلاء الرجال على النساء، وإنما المراد حملها على الخير؛ خيرِ دينها ودنياها، بإصلاح أمرها بالقوة، ولا شك أن هذا الضرب إذا كان ضرباً شرعياً يكون له أثره، والصحابة رضوان الله عليهم ضربوا، ووقع الضرب منهم لنسائهم، ولكن إذا كَمُل الرجل وفَضُل، ورزقه الله عز وجل الألفة والمحبة والعقل والبصيرة، فإنه لن يصل إلى مثل هذه الأمور، ويعيش مع زوجته دون أن يرفع يده يوماً عليها، وهذا صنيع الكرام وهم خيار الأمة، فخيارنا من وُفِّق لحسن الخلق حتى أصبح يملك زوجته بالمشاعر، ولذلك لما أكد النبي صلى الله عليه وسلم على الأخلاق، وأتى في الأخلاق بباب عام تحتاجه الأمة، قدم الأخلاق مع الأهل أولاً، فقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
فالرجل الذي يوفق للإحسان إلى زوجته مع التعقل في ذلك الإحسان، بحيث لا يكون سبباً في إفراطها في الدلال والضياع، ويكون إحساناً متعقلاً، فإن الله سبحانه وتعالى يرزقه المحبة التي معها الهيبة، وشتان بين هيبة بالقوة وبين هيبة بالمحبة.
كما قال القائل: أهابك إجلالاً وما بك قدرةٌ عليَّ ولكن ملء عينٍ حبيبها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يضرب الناس، ولا ضرب إلا في الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ ولكن كان إذا سخط الشيء عُرِف في وجه، فلم يكن صخاباً، ولا سباباً، ولا لعاناً، صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يعامل الناس بالمشاعر.
فالرجل الكريم الإلف المحبوب الذي يعاشر زوجته بالمعاشرة الطيبة الحميدة الكريمة إذا لوى وجهه عنها أحست بمرارة الحياة، حتى إن بعض النساء تقول لزوجها: اقتلني ولا تعرض عني، من كمال محبتها له؛ لأنه ملَكَ مشاعرها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن بأخلاقكم) فالخلق يملك القلوب.
فإذا كان الرجل يريد أن يقيم بيته فليعلم أن البيوت ليست ميادين القوة والشدة والعنف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)، فالرفق خير للأمور، وصلاح لها، إذا كان موضوعاً في موضعه، وعلى الإنسان أن يجتهد.
والعلماء يقولون: إن أكثر ما يحفظ الله به الإنسان عن أذية الأهل، وأذية الأهل له: كثرةُ الطاعة، فإن العبد الصالح المتقي لله عز وجل يُحْفَظ من أذية أهله، ولو آذاه أهلُه يعصمُه الله عز وجل من الزلة والأذية والإضرار، فيبقى صابراًَ حتى يأتيه الفرج، ولذلك ذكروا عن زكريا عليه السلام أنه كانت امرأته تسبه وتشتمه وتؤذيه وتضره، وهو نبي من أنبياء الله، كما قال تعالى عنه: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:٩٠]، فأصلح الله له زوجه في آخر عمره، وحين تقرأ في تراجم العلماء والفضلاء تجد من أخلاقهم مع أهلهم وصبرهم عليهم شيئاً كثيراً، حتى قالوا: ليس من حكيم إلا ووراءه امرأة تؤذيه؛ من كثرة ما رأوا؛ لأنه إذا أوذي واضطهد من امرأته أصبح حكيماً، وهذا من المبالغة، وليس بحقيقة، ولكن مما جرب وشوهد وعلم أنك تجد العلماء والفضلاء والكرماء والعظماء تغلبهم النساء، فما للمسلم إلا الصبر واحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، فإذا استرجع وفوض الأمر إلى الله، فإن الله يتولى أمره.
من نزلت به فاقة، وألمت به حاجة، وضاقت عليه الأمور، فتوكل على الله، وفوضها إلى الله، وتضرع إلى الله، فلن يمضي عليه فترة إلا وقد أراه الله بهجة سرور في أهله وزوجه، ومن يصبر يصبره الله، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا ألذ عيشنا بالصبر.
فالمرأة من ينظر إلى حالها في بيتها وشؤونها، وتشتت فكرها في هذه الأمور، وفي أولادها، وفي شؤونها، يتنازل عن كثير، ويصبر على كثير، وهذا هو الذي عناه عمر رضي الله عنه حينما جاءه عقيل يشتكي من زوجه، فلما وقف على الباب سمع امرأة عمر تسب عمر، وهو إنما جاء ليشكو أهله إلى عمر، فوقف في الباب فوجد أن أمير المؤمنين يُسب من زوجه فرجع؛ لأنه رأى عظة له وسلوة عن الشكوى، فرآه عمر رضي الله عنه فدعاه، فلما جاء قال: ما حاجتك؟ قال: خيراً يا أمير المؤمنين، قال: عزمت عليك إلا أخبرتني، فقال له: يا أمير المؤمنين! إن أم فلان آذتني، فلما وقفت في الباب سمعت زوجتك تسبك! فقال عمر رضي الله عنه: يا عقيل! إنها أم أطفالي، تغسل ثوبي، وترضع صغيري، فأنا أمسكها لأجل ذلك، أي: كن حكيماً عاقلاً بعيد النظر، فإن الدنيا ليس فيها شيء كامل من سرورها إلا ما كان من ذكر الله عز وجل.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه) فليس هناك شيء كامل في هذه الدنيا، فما يرى الإنسان من بهجة الدنيا شيئاً أو سروراً إلا جعل الله فيه نغصاً.
فانظر إلى أحوال الدنيا كلها، فإنك تكون -مثلاً- في البر، فتجد طيب الهواء، وأجمل ما تكون المناظر في طبيعتها، وتلتذ بأنسك وانبساطك، فتخرج لك حية من الأرض، أو تخرج لك العقرب، فتعاف البر بما فيه، وترى أن المدن أحسن، فإذا ذهبت إلى المدن، وتنعمت براحتها وسرورها جاءك نكدها ونغصها، وذلك حتى لا يركن المؤمن إلى الدنيا.
مسرة الدنيا إلى تنغيص وربما أعيت يد الحريص لأنها لو كانت كلها سروراً فلربما -والعياذ بالله- اطمأن إليها العبد فهلك، لكن الله لطف بعباده فجعل مسراتها إلى تنغيص، ومهما وجد من زوجته وأولاده سروراً فلابد أن يرى يوماً يبكي فيه بمرارة؛ حتى يبقى سروره بالله وحده لا شريك له، فيجد أن المحبة الكاملة ينبغي أن تكون لله، وأن السرور الكامل كله لا يكون إلا لله.
وهكذا الزوجة، فإن المرأة تسر بزوجها وتفرح، حتى إذا جاءها يوم من الأيام تغير ذلك السرور، وذهبت تلك البهجة، وقد يكون سرور الزوج لحاجة ومتعة، لكن المؤمنة إذا تسلت بالله، وقامت بذلك الزوج، وحملته ودبرت -بتوفيق الله ومعونته- شؤونه وأحواله وأموره وأولاده وأطفاله، وحملت الهموم والغموم، وهي لا تنتظر منه شكراً، ولا تنتظر منه ثناءً، إنما تنتظر من الله جل جلاله، فاليوم الذي ينقلب لها فيه ظهر المجن لا يتغير عندها شيء، فتجدها راضية مطمئنة فرحة حتى بالبلاء؛ لأن الإنسان إذا سر بسرور الدنيا أبكاه الله، فلا ينبغي للإنسان أن يكون سروره سرور المطمئن الغافل، وإنما إذا رأى بهجة الدنيا قال: الحمد لله، فذكرته بهجتها بما عند الله عز وجل.
ولذلك يقولون: إن يعقوب عليه السلام أحب ابنه يوسف عليه السلام، فعذبه الله بحبه، وفارقه حتى فقد بصره من البكاء عليه، فالإنسان إذا أحب شيئاً من هذه الدنيا، وركن إليها، بمعنى أنها عظمت محبتها في قلبه، فإنه لابد أن يرى يوماً يبكي فيه من تلك المحبة، فنسأل الله العظيم أن يجعل قلوبنا مملوءة بمحبته، وأن يجعل لنا من حبه وبره وشكره والرضا به أعظم حظٍ ونصيب.