[الأخذ بالأسباب]
أما الأمر الثاني الذي يوصى به من ابتلي بالوسوسة: فأن يأخذ بالأسباب، وهذا الأمر فيه جانبان هامان: الجانب الأول: الارتباط بالعلماء: أن يرتبط الموسوس بطالب علم أو بشيخ، ولا يفتي نفسه، فإذا أفتاه ذلك العالم، أو من عنده علم وبصيرة فليعمل بفتواه ولا يلتفت إلى أي شيء سواه.
مثلاً: يشك أنه طلق زوجته أو لم يطلقها، فجاء يسأل الشيخ عن مسألته في الوسوسة التي وجدها، فإن قال له: ما وقع الطلاق، فعليه أن يتقبل الفتوى بصدرٍ منشرح؛ لأنه بين الشيطان وبين العالم، فإما أن يصدق الشيطان وإما أن يصدق العالم، فإن صدق الشيطان استهوته الشياطين والعياذ بالله، فأصبح حيران في الأرض؛ ولذلك تجد من يبتلى بالوسوسة ويرتبط بالعلماء يكون أمره أرحم وأخف من الذي لا يرتبط بأهل العلم.
ويستحسن للعلماء والأئمة والمشايخ وأهل الفتوى إذا جاءهم إنسان وعرفوا أن فيه وسوسة، وكانت أوقاتهم وظروفهم لا تسمح لهم بالإجابة على أسئلته أن يحيلوه على من عنده صبر وتحمل وجلد أكثر؛ لأنه سيصل العالم إلى درجة صعبة جداً؛ لأن الموسوس لا يملك نفسه، حتى إن بعضهم من الحوادث التي كانت تمر بنا يمكن أن يجلس مع العالم ويسأله عشرين مسألة مما يمر به -نسأل الله السلامة والعافية- ويخرج من الباب ثم يرجع بعد دقائق يسيرة ويقول: زوجتي حلال لي؟! وذلك من شدة ما يجد من الوسوسة.
فيحتاج إلى إنسان عنده صبر وتحمل، ومع ذلك نقول لأهل العلم وطلابه: ما أعظم جزاءهم عند الله عز وجل! وما أعظم ثوابهم إذا استشعروا أنهم يفرجون كربة المكروب بإذن الله عز وجل، وأنهم يوسعون على إخوانهم! وأنهم مع المبتلى في بلائه: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
فانظر رحمك الله: إذا كان العون في أحب الأشياء إلى الله وهو العلم النافع، فلا شك أن أمره أعظم، وما ارتفعت درجات العلماء، ولا نالوا الدرجات العلا في الجنة إلا بفضل الله وبمثل هذه الابتلاءات، فالعلم كما أنه يرفع الإنسان لا بد أن يدفع ثمنه، وأن يضحي.
وينبغي على من ابتلي بشيء من الوسواس أن يشفق على العلماء الذين عندهم مسئوليات أعظم، وأن يعلم أنهم ارتبطوا بأكثر من أمر فيرتبط بمن دونهم وممن هو أكثر فراغاً، خاصة في هذه الأزمنة التي قل أن تجد فيها من يضبط العلم ومن يحسن الفتوى، فإذا سأل العلماء المفتين الجهابذة كان الأمر أصعب، وربما إذا ارتبط بعالم من هؤلاء العلماء أحرجه، وقال له كلمة، أو تصرف معه تصرفاً نابياً، وعليه أن يسكت، فوالله لو يعلم الناس ما يجده أهل العلم من تحمل المشاق والمتاعب لأشفقوا عليهم، فينبغي للمبتلى بالوسوسة أن يتسع صدره، ويختار عالماً عنده من الفراغ والوقت ما يعينه على إجابته.
الجانب الثاني: من الأسباب المهمة أنه إذا سأل عالماً وارتبط به فهناك أمر مهم جداً، وهو أنه بمجرد ما يسأل العالم يشككه الشيطان في الفتوى، فتارة يقول له: لم تبين للشيخ حقيقة الأمر.
يعني: يوسوس له في جانبٍ غير الجانب الذي كان فيه، فيقول له: أنت ما وضحت للشيخ، فيرجع المسكين مرة ثانية ليعيد السؤال مرة ثانية عليه؛ لأنه يحس أنه لم يفهم الشيخ السؤال كما ينبغي؛ ولذلك كان بعض العلماء من مشايخنا رحمة الله عليهم إذا سأله موسوس يعيد السؤال عليه مرة ومرتين مع أن الموسوس ما سأله أن يعيد، ويقول له: أنت تقصد كذا؟ يقول له: نعم، فيعيده مرة ثانية ويقول له: أنت تقصد كذا؟ فيقول له: نعم، قال: حتى تعلم أني فهمتك؛ فيخرج بصدر منشرح وبنفس واثقة أنه قد بلغت رسالته للعالم، وهذا من فطنة العالم وحكمته وذكائه، وهذا فتح من الله عز وجل له.
وإنما يقولون: طلب العلم على علماء لهم قدر راسخ في العلم أبرك وأكثر فائدة؛ لمثل هذه الفوائد مع الخبرة ومع أخذهم للعلم عمن هو أعلم، فيركز العالم في نوعية السائل، ولذلك كانوا يقولون: الفتوى لها فقه، وهذا الفقه هو معرفة السائل والمستفتي.
الموسوس يدخل عليه الشيطان بأمور كثيرة فالذي يريد أن يقف مع الموسوس في الفتاوى عليه دائماً أن ينزل نفسه منزلة الموسوس، فبذلك يتسع صدره لضيقه، ويتحمل كثيراً مما يكون من هذا الموسوس، ولا شك أن من أفضل وأصلح ما تكون من الدعوات دعوات أمثال هؤلاء؛ لأنه يدخل عليه بكرب لا يعلمه إلا الله، ويخرج من عنده بنفس غير النفس التي دخل بها، فربما دعا له من أعماق قلبه دعوة تكون سبباً في سعادته في الدنيا والآخرة، فيحتسب في مثل هؤلاء، فيحرص على أن يشعره أنه فهم قوله.
وينبغي للعالم إذا سأله الموسوس أن يسأله: هل بقي في السؤال شيء؟ هل هناك جوانب أخرى؟ وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم، كان يقول للموسوس إذا سأل المسألة: اسمع! أنت سألت عن كذا وكذا، فيعيد له السؤال مرتين، ثم يقول له: اعلم أن الذي يهم في الفتوى هو الذي ذكرته، يعني: ليس هناك شيء آخر أحتاج أن أسألك عنه، ولو كان هناك شيء احتجت أن أسألك عنه لسألتك، وذلك حتى إذا خرج الموسوس من عند العالم وجاءه الشيطان وقال له: هناك جانب آخر لم تذكره، فتحتاج أن ترجع مرة ثانية، ثم يصدق الشيطان، لأنه عندما يقول له العالم: إن المهم في السؤال هو كذا كذا، وحالك على كذا وكذا، وأي شيء آخر زائد عن هذا فاعلم أنه لا يؤثر في الفتوى، فيعلم أنه ملزم بهذه الفتوى، وأن الذي أجابه به العالم هو الذي عليه العمل.