[حكم قراءة الفاتحة على المأموم في السرية والجهرية]
السؤال
هل تجب على المأموم قراءة الفاتحة، مع الدليل، وبيان قول المخالفين في ذلك؟ وإذا لم يتمكن المأموم من قراءة الفاتحة في سكتة الإمام فهل يقرؤها والإمام يقرأ؟ وماذا عن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:٢٠٤] أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال على التفصيل، وقولان من حيث الإجمال: القول الأول: وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في السرية والجهرية وراء الإمام، وهذا هو مذهب الشافعية، وطائفة من أصحاب الحديث رحمهم الله.
واستدلوا بأدلة منها: أولاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب ... ) والقاعدة في الأصول: أن أي من صيغ العموم، تقول: أيما رجل، أيما امرأة، هذا من صيغ العموم.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ما قال: إلا إذا كان مأموماً.
ثالثاً: ورود الدليل النصي في موضع النزاع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى وارتج عليه، قال: (إنكم تقرءون وراء إمامكم؟ قالوا: نعم، يا رسول الله!) لأن المسألة في أول الإسلام- فكانوا إذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة بعد الفاتحة، قرءوا معه، فكان إذا قرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:١] وهو إمام، يقرءون هم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فقال: (إنكم تقرءون ورائي قالوا: نعم.
قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) هذا نص صريح واضح على أن فاتحة الكتاب مستثناة.
القول الثاني: الذين قالوا: إنه لا يقرأ وراء الإمام احتجوا بحديث جابر، وغيره رضي الله عن الجميع وفيه: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة): أولاً: هذا الحديث من حيث السند أضعف، ومختلف في ثبوته، وبين العلماء نزاع طويل في حديث:) من كان له إمام) وغاية ما فيه أنه حسن لغيره عند بعض العلماء بالشواهد، ولعل القول بأنه حسن لا يرتقي إلى معارضة الصحيح الصريح؛ لأن قوله: (لا صلاة) نكرة في سياق النفي، وهي تفيد العموم، وهذا من أقوى المتون.
ثانياً: هذا الحديث مما اتفق عليه الشيخان، وهذا حديث حسن، هذا من ناحية السند.
أما من ناحية المتن فقوله: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة): القراءة تحتمل أمرين: الأمر الأول: تحتمل كل شيء يقرؤه الإمام.
الأمر الثاني: تحتمل ما بعد الفاتحة؛ لأنهم كانوا يفعلون كل شيء معتقدين فيه بالإمام، ولابد أن نفهم الأحاديث كما فهمها الصحابة، لا على فهمنا الآن، وهذا أمر مهم جداً يفيد طالب العلم، لأن البعض يتصور الأحاديث الآن ويحملها على صور معينة محدودة، مع أن الأحاديث في زمان التشريع لها أوجه، ومن هنا: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) كانوا يقرءون وراء الإمام، فماذا قال لهم عليه الصلاة والسلام؟ قال: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فقراءة فاتحة الكتاب مأخوذة من هذا الحديث، وهذا الحديث يفسر ذلك الحديث.
أولاً: نقول: إن حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام ... ) من ناحية السند أضعف من حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
ثانياً: من ناحية المتن، نقول: احتمل معنيين: معنى العموم، ومعنى الخصوص، فحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) عام، نخصصه بحديث: (إلا بفاتحة الكتاب)، وتخصيص العموم واضح ومعروف، أو نقول: إنه محمول على قراءة غير الفاتحة، حينئذ لا إشكال؛ لأنه خرج عن موضع النزاع، وموضع النزاع في الفاتحة لا فيما بعد الفاتحة، هذا بالنسبة للذين قالوا: لا يقرأ وراء الإمام.
أما آية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:٢٠٤] هذه الآية الكريمة لا تعارض ما نحن فيه؛ لأن الآية غاية ما فيها وجوب الاستماع للقرآن عند الإمكان، ولذلك لو أخذت بعموم هذه الآية: كأن خرجت إلى السوق وسمعت شخصاً يقرأ القرآن، أيجب عليك أن تستمع له؟ لا يجب عليك؛ لأن المراد بها الفضل في قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: من أجل أن ترحموا، وبالإجماع عند العلماء رحمهم الله: أن من مر على قارئ قرآن لا يجب عليه أن يجلس ويستمع لقراءته، بل هو مخير إن أراد الرحمة جلس، وإن أراد الانصراف انصرف، وقد نزلت في الصلاة, والمراد بهذا: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: أنصتوا للقرآن، وهذا أعم من موضع النزاع؛ لأن عندنا أحاديث مستثناة خاصة، فغاية ما تقول في الآية: إنها متعارضة مع الحديث، وهذا القول لا يسلّم به؛ لأنه في اعتراضات واردة، لكن لو سلِّم أن هذه الآية تعارض الحديث، وأنها في الصلاة، نقول: الحديث دل على ركنية الفاتحة، حتى الذين قالوا بالاستثناء؛ فإنهم يسلِّمون أنها ركن، إلا الحنفية رحمهم الله، فإذا كان يُسلّم أنها ركن، فالحديث الذي أثبت وجوب قراءة القرآن في الركنيات، وآية: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} غاية ما فيها أنها في الواجبات التي هي ليست أصلاً في الصلاة؛ لأن هناك واجبات من أصول الصلاة، مثل: التسبيح، والتحميد، وأذكار الصلاة، وواجبات ملحقة بأصول الصلاة، ليست هي أصلاً في الصلاة، بدليل أنها لا تجب إلا في القراءة الجهرية، دون غيرها، فليست من الواجبات المؤصلة، إنما من الواجبات العارضة، وواجبات العوارض لا تعارض واجبات أصول الصلاة؛ لأن الفاتحة واجبة في الصلاة، ثم كيف تعارض ما هو ركن في الصلاة؟! حتى لو سلم أنها من واجبات الصلاة، وأنها داخلة في واجبات الصلاة، والفقه أن تعرف دلالة كل دليل، ومنزلة هذا الدليل، هل في أصول الصلاة، أو هو ملحق بالصلاة؟ وبناءً على ذلك نقول: إن هذه الآية الكريمة لا يمكن بحال أن ننزلها منزلة: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) الذي هو نص في موضع النزاع.
ثم نقول: إن حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وآية: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} يمكن الجمع بينهما: فليقرأ الفاتحة، ويسمع القرآن، أليس عند قراءة الفاتحة يستمع للإمام، وحصل امتثال للأمر فيما هو في الإمكان؟! فجاءه عذره الشرعي، فقرأ القرآن واشتغل بما هو ركن عن واجب، وعندنا نظائر في الشريعة في الاشتغال بالأركان عن الواجبات، وبالواجبات الأهم عن الواجبات المهمة، وبناءً على ذلك نقول: إننا نقدم الأقوى، والقول بوجوبها على المأموم من هذه الأوجه كلها أقوى وأحرى، ويدل على ذلك فعل السلف: فهذا أبو هريرة رضي الله عنه الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اعترض عليه بهذه الآية، وقال المعترض: إن الإمام يقرأ، فقال له: إقرأها في نفسك يا فارسي! من شدة تشديده على هذا الأمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: اقرأها في نفسك، فإذا قرأها في نفسه فقد اشتغل بواجب في حظ نفسه، وحرص على إتمام ما فرض الله عز وجل عليه إتمامه.
والله تعالى أعلم.