[النقصان في الدية وأسبابه]
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في مسألة تعرف عند العلماء رحمهم الله في باب الديات بمسألة: النقصان في الدية.
المنقصات للدية والتي توجب نقص الدية لها أسباب، والدية مائة من الإبل، لكن يعدل عن هذا الأصل إلى النقص فتجعلها على النصف أو على الثلث، أو تجعل عُشر الدية (الغرة) في الجنين إذا أسقط بالشروط التي سنذكرها، والتفصيل الذي سنبينه إن شاء الله تعالى، أو نصف العشر كما يقول بعض العلماء رحمة الله عليهم، هذا كله يسمى: نقصان الدية.
ونقصان الدية له أربعة أسباب: السبب الأول: الكفر.
والسبب الثاني: الرق.
والسبب الثالث: الجنين.
والسبب الرابع: الأنوثة.
فحينئذٍ تعدل من الكمال في الدية الذي هو المائة وتنقص الدية، ثم يفصل في هذا النقصان: هل تشطّر الدية بالنصف؟ أم هل يُحكم بنقصانها إلى الثلث؟ كل هذا سنبينه إن شاء الله تعالى.
فابتدأ المصنف رحمه الله بالنقصان من جهة الكفر: أن يكون المقتول كافراً، ثم هذا الكافر على أقسام: قسم: محقون الدم، وله عهد وذمة بين المسلمين، وله دين سماوي وهم الكتابيون، ولذلك فرقت الشريعة بين الكتابيين وغير الكتابيين كالمشركين والمرتدين والوثنيين والملحدين، هؤلاء فرقت الشريعة بينهم؛ لأن الكتابيين لهم أصل من الدين السماوي، ولأن الكتابيين يؤمنون بوجود الله عز وجل، ولكن والعياذ بالله بعض الكفار يقول: لا يوجد إله.
أو يجعل مألوهه حجراً أو شجراً أو بقرة نسأل الله السلامة والعافية، فيعبد غير الله سبحانه وتعالى.
فالشاهد من هذا أن أهل الكتاب الذين لهم دين سماوي خولف في أحكامهم عن الكفار من سائر الملل الأخرى والطوائف، فالكتابي إذا قتله المسلم اختلف فيه العلماء رحمة الله عليهم على ثلاثة أقوال مشهورة: القول الأول يقول: الكتابي ديته نصف دية المسلم، وهذا على ما اختاره المصنف رحمه الله، وهو مذهب طائفة من السلف، وأيضاً مروي عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين.
القول الثاني يقول: دية الكتابي مثل دية المسلم، فإذا قتل المسلم كتابياً، فالواجب أن تدفع الدية لأوليائه وأهله كاملة مثل المسلم، وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.
والقول الثالث يقول: دية الكتابي على الثلث، وهو مذهب الشافعية، والأول مذهب الحنابلة والمالكية رحمة الله على الجميع.
فالذين قالوا: إن دية الكتابي مثل دية المسلم استدلوا بقوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:٩٢] وسوى في هذا الوصف بين دية المسلم ودية الكتابي، وقالوا: هذا يدل على أن ديته كدية المسلم، واستدلوا بحديث استظهر بعض العلماء عدم صحته، وبعضهم يقول: لا نعرف له أصلاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الكتابي مثل دية المسلم).
قالوا: هذان الدليلان من الكتاب والسنة يقتضيان أن الكافر الكتابي إذا قتله المسلم وجب دفع الدية إليه كاملة كالمسلم سواءً بسواء، ثم قالوا: إنه لما أصبح ذمياً في بلاد المسلمين، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، فتكون ديته مثل دية المسلم إذا اعتدي عليه.
والذين قالوا: إن الدية تكون على الثلث استدلوا بقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك أنه جعل دية الكتابي على الثلث من دية المسلم، وعلى هذا يقولون: إنه تثلث الدية ولا يعطى على التشطير، وقالوا: إن عمر بن الخطاب من الخلفاء الراشدين المأمور باتباع سنتهم وهديهم، فيصبح هذا الحكم لازماً وسنة متبعة.
والذين قالوا: إن دية الكتابي على النصف من دية المسلم كما اختاره المصنف رحمه الله، وهو قول طائفة من السلف كما ذكرنا استدلوا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن عقل الكتابي على النصف من عقل المسلم) وهذا الحديث حسن إسناده غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم، وهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جعل دية الكتابي نصف دية المسلم.
وبناءً على ذلك لما قال: (الكتابي) شمل اليهود والنصارى، فتكون ديتهم نصف دية المسلم؛ خمسين من الإبل في ذكورهم، وخمس وعشرين من الإبل في إناثهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وخمسمائة دينار بالنسبة للذهب، وستة آلاف درهم بالنسبة للفضة، ومائة بقرة وألف شاة بالنسبة للبقية، ومائة حلة من الثياب على القول بأن الحلل تدخل في أصول الديات.
وهذا الحديث هو أصح، والقول به أرجح، ويجاب لما ورد في القرآن في قوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:٩٢] أن هذا مطلق، وجاءت السنة فقيدته، والقاعدة: (إن المطلق يحمل على المقيد).
وكم قيدت السنن من إطلاقات القرآن وخصصت من عموماته وبيّنت من إجمالاته، فلا إشكال أن السنة تبين القرآن.
ثانياً: الاستدلال بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه نقول: تعارض المرفوع والموقوف، فيقدم المرفوع على الموقوف، ويعتذر لـ عمر بأنه يحتمل أنه لم يبلغه قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الرواية عنه ضعفها بعض العلماء رحمة الله عليهم في كونه قضى بالثلث الذي ذكروه.
وعلى هذا يترجح القول الذي اختاره المصنف: أن الكتابي ديته تكون على النصف من دية المسلم.