[حكم بيع ما لا تملك]
السؤال
وقع إشكال عندي في شركة الوجوه مع الحديث: (لا تبِع ما ليس عندك)، إذ إن من الممكن إذا طُلِبت مني سلعة ليست عندي أن أذهب إلى التاجر وآخذها بوجهي فوراً ثم أبيعها!
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أما بعد: فإذا جاء طالب العلم يستشكل شيئاً فينبغي أن يحسن فهم النصوص والأحاديث ثم يطبقها على الإشكال الذي عنده، يعني: لا تستشكل شيئاً إلا بعد معرفة الضوابط والأصول.
الحديث يقول: (لا تبِع ما ليس عندك)، وهو حديث صحيح من حديث حكيم بن حزام حينما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتيه الرجل وليس عنده المتاع، فيتفق معه، ثم يذهب ويشتريه ويبيعه، فقال له: (لا تبِع ما ليس عندك)، وهو حديث صحيح صححه غير واحد من العلماء.
لكن شركة الوجوه من حيث الأصل: الطرفان لم يبيعا ولم يتفقا مع أي شخص آخر، ثم أنت تقول: إنه قد يقع الإشكال بين الحديث وبين الشركة؛ لكن الذي ذكرتَه في السؤال: (أذهب وآخذ وأبيع).
أي: طُلِبت مني سلعة ليست عندي فأذهب إلى التاجر فآخذها بوجهي فوراً وأبيعها على الشخص.
فهذا لا يقع في شركة الوجوه فقط، بل يقع في كل شيء.
لكن شركة الوجوه قلنا: إن الشخص يتفق مع الطرف الثاني على أن يشتري شيئاً لم يبِعه لأحد، وعقد الشركة يقع بين الطرفين على شراء الأعيان على ذمتهما، ومسألة البيع على الطرف الثاني لم تأتِ، وليس لها علاقة، والآن نتكلم عن طرفين يتفقان على عقدٍ معين لشراء الأشياء على ذمتهما، وأنت تقول: الحديث يعارض عقد الشركة؛ لأن قولك: يعارض شركة الوجوه، أو يُشكل في شركة الوجوه غير مُحَرَّر، وينبغي أن يكون الاعتراض بالحديث على العقد نفسه.
وجود السؤال هذا خير وبركة؛ لأن طالب العلم دائماً لا يرتقي إلى الكمالات والضبط إلا بالتنبيه.
وأقول وأكرر: ينبغي على طالب العلم أن يتنبه للأحاديث والنصوص، وبخاصة الآيات والأحاديث، فلا تحمِّل النص أكثر مما يحتمل، ولا تصرفه عن وجهه، النص يقول: (لا تبِع ما ليس عندك) نص واضح، وهو فيمن يتفق مع شخص على بيعه ما لم يملكه بعد، كأن تتفق مع شخص على أن يبيعك سيارته بتسعة آلاف، فيأتيك شخص آخر ويقول لك: اشترِ لي سيارة من نوع كذا بعشرة آلاف وقيمتها تسعة آلاف، فتأخذ ربح الألف وأنت لم تقبض السيارة ولم تضمنها، فهذا بيعٌ لما لم تملك، وربح لما لم يضمن، هذا واضح ليس فيه أي إشكال.
والخطأ أنك إذا جئت تقول: يُشكل الحديث على شركة كذا، معناه: تأخذ معنى الحديث وتأخذ عقد شركة الوجوه.
فما علاقة عقد شركة الوجوه مع قوله: (لا تبِع ما ليس عندك)؟ ليست هناك علاقة، فعقد شركة الوجوه: يتفق الطرفان على شراء الأعيان بذمتهما، على أن الربح بينهما على ما اتفقا عليه.
ما علاقة هذا بقوله: (لا تبِع ما ليس عندك)؟ ليست هناك أي علاقة.
ولو أن الطرفين أثناء الشركة اتفقا مع الناس على السلع وتبايعا، ثم ذهبا واشتريا، فهذا أمر يرجع إلى عقد البيع، أما تصرف الشريكين فقد تصرفا ببيع ما لم يملكا، يعني: لا يظن السائل أن عقد شركة الوجوه يسلتزم بيع ما ليس عنده؛ لأن عقد شركة الوجوه لا يحصل إلا بعد الملكية والقبض، وهذا قررناه وبيَّناه، بل حتى قلنا: لا يقسم الشريكان إلا بعد تصفية رأس المال.
إذاً: عقد الشركة ليس فيه إشكال؛ لكن لو أن الشريكين تبايعا مع الناس قبل أن يملكا السلعة، فهذا لا يختص بشركة الوجوه، ويمكن أن يقع في شركة العنان، ويقع في شركة المفاوضة، ويقع حتى في المضاربة.
وحينئذٍ لا تقول: يشكل عليَّ (بيع ما ليس عنده) مع شركة الوجوه؛ لأنه من الممكن أن يقول قائل: يُشكل عليَّ أن شركة الوجوه قد تفضي إلى الربا؛ لأنه من الممكن أن يتفق الطرفان، ويصرفا المال صرفاً ربوياً، فلا نقول: إن هذا الربا يُشكل على عقد الشركة.
إذاً: من ناحية الاعتراض، فليس هناك تعارض بين عقد شركة الوجوه وبين بيع الإنسان ما لا يملك؛ لكن قد تقع بعض صور البيع من الشركة؛ سواء من أحد الشريكين أو من الشريكين معاً على صورة بيع ما لا يملك، بل ربما وقع عقد الشريكين مع طرف آخر على وجه محظور، كالبيع بطريقة الربا، أو أن يتبايعا بيع غرر، أو أن يبيعا بيع غش وتدليس، فهذا لا يؤثر في عقد الشركة، بل هو عارض بتصرف أحد الشريكين على غير الوجه المعروف؛ لكنه لا يؤثر في أصل عقد الشركة، ويؤثر في نفس الصفقة، لكن إذا جئت تعترض، فشرط الاعتراض أن يكون مؤثراً في نفس عقد الشركة.
يعني: لو اتفق الطرفان على شركة الوجوه وذهبا واتفقا مع الناس -مثلاً- على بيع سيارة، وقالا للمشتري: نؤمِّن لك هذه السيارة بمائة ألف، والسيارة قيمتها ثمانون ألفاً، ثم ذهبا واشتريا بجاهيهما سيارةً بثمانين ألفاً وباعاها بمائة ألف.
نقول حينئذٍ: عقد البيع باطل وليس عقدَ الشركة.
وحينئذٍ من ناحية أصولية منطقية: إذا ورد الاعتراض على آحاد الصور التي هي ليست مركبة من صورة العقد، ولا يستلزمها أصلُ العقد، ولا من مقتضياته ولوازمه التي لا يمكن أن تنفك عنه، فحينئذٍ يكون الاعتراض على التصرف وليس على أصل العقد.
وهذا أمر ينبغي لطالب العلم أن يتنبه له، وهو أن الاعتراض على التصرف وليس على أصل العقد، ومن الممكن أن أي شركة تقع بين الطرفين يتصرف أحد الطرفين تصرفاً خاطئاً فنقول: الخطأ في التصرف وليس في عقد الشركة؛ لأنها ليست من لوازم الشركة، ولا من حقيقة عقد الشركة، فليس من حقيقة عقد الشركة أنه قائم على بيع الإنسان ما لا يملك، وليس من لوازمه أن يبيع أحد الشريكين ما لا يملكه ويأخذ ربح ما لا يضمن.
وأكدتُ في هذه القضية بأن الاعتراضات والإشكالات يستفيد منها طلاب العلم كثيراً، بل إن علم الأصول من حيث هو إذا جئت تنظر إلى كلام العلماء ومطولاتهم فيه تجد أن الغرض منها تمرين الذهن، ورياضة الفَهم على كيفية فَهم الاعتراضات ورد الإشكالات، والجواب عنها.
ولذلك نقول: ينبغي على طالب العلم إذا اعترض أن يحرر الاعتراض، خاصة إذا كان الاعتراض فيه مصادمة نص أو آية أو حديث أو إجماع؛ لأنهم يقولون: إن الشخص إذا كان نصف عالم ربما هلك، والهلاك بنصف العلم يعني: يكون عنده نصف تصوُّر، فيستعجل الفَهم، فيُحدث الاعتراضات والإشكالات على نفسه؛ لكن لو حرر الأمور وثبت على رسوخ في العلم، لم يبقَ له إشكال.
ونسأل الله العظيم أن يلهمنا السداد والرشاد.
والله تعالى أعلم.