[عقوبة التغريب]
والعقوبة الثانية في حده: التغريب، والتغريب في لغة العرب: مأخوذ من (غرب الشيء): إذا توارى وغاب عن الأنظار، ولذلك يقولون: غربت الشمس، إذا توارت عن الأنظار، وهذه المادة تطلق على الشيء البعيد، ومنه سمي الغريب غريباً؛ لأنه بعيد عن أهله، وقد غاب عن وطنه وبلده ومسكنه، فالتغريب: عقوبة شرعية تقع في الحدود وفي التعزيرات، فأما في حدود الله عز وجل فيقع في حد الزنا وحد الحرابة، ونص الله عز وجل عليه في حد الحرابة {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:٣٣] بلفظ: النفي، والنفي هو: التغريب، ونصت السنة عليه في حد الزنا في قوله عليه الصلاة والسلام: (وتغريب عام) في حديث العسيف، وفي حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم.
فثبت بهذا أن عقوبة التغريب تقع في الحدود الشرعية، في حد الزنا وفي حد الحرابة، لكنها قد تقع في غير الحدود على سبيل التعزير، كما أثر عن عمر في نفي شارب الخمر، وهذه العقوبة قد يستخدمها الإمام إذا رأى المصلحة في نفي رجل فاسد، وعليه حمل ما رواه البخاري عنه عليه الصلاة والسلام أنه نفى المخنثين، فهذا يدل على مشروعية هذه العقوبة في التعزير للإمام، فإذا رأى المصلحة في إبعاد شخص أو أشخاص عن مكان ما أو موضع ما؛ فإنه لا بأس بذلك ولا حرج، وقد يستخدمه المفتي في فتاويه تنبيهاً على استصلاح الأنفس كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه في قصة الرجل الذي قتل مائة نفس، فاستفتى أعلم أهل زمانه -وهو آخر الرجلين قولاً في المسألة- فدُل على هذا العالم، فقال: إني قتلت مائة نفس، آخرها نفس عابد، فهل لي من توبة؟ قال: وما يمنعك من التوبة؟ ثم قال له: إن قريتك قرية سوء، وقرية بني فلان فيها قوم صالحون، فارتحل إليها، فهذا يستخدمه أهل العلم في الفتوى، ويستخدمه الإمام، ويستخدمه القاضي للمصلحة، وهذا التغريب يسمى (التعزير)، وبابه باب التعزير.
فالزاني المحصن -رجلاً كان أو امرأة- يغرب سنة كاملة إلى مسافة القصر فأكثر، وما كان دون مسافة القصر -وهو مسافة السفر- فليس بتغريب، وهذا التغريب ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديثين الصحيحين السابقين، وثبت عن أبي بكر وعمر كما في رواية نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما جلدا وغربا، وأثر عن علي رضي الله عنه أنه غرب إلى البصرة، وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن غرب إلى خيبر، وإلى البصرة، وكل ذلك مسافة قصر فأكثر.
مسألة: هل يشرع التغريب في عقوبة الزنا؟ وهل هو واجب لازم من تمام العقوبة والحد؟ قولان للعلماء رحمهم الله: القول الأول: وهو قول جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث رحمة الله على الجميع أنه يجب تغريب الزاني الحر غير المحصن سنة كاملة، وهذا من حيث الجملة، وعندهم خلاف في مسألة: هل يشمل التغريب الرجال والنساء؟ فالجمهور متفقون على أن التغريب عقوبة في الزنا من حيث الجملة، وإذا قلنا: من حيث الجملة فمعنى هذا أن الجمهور عندهم خلاف عند التفصيل، من الذي يغرب؟ ومن الذي لا يغرب؟ دائماً إذا قلنا: في الجملة؛ فمعناه أن التفصيل فيه خلاف، وقد تكون هناك شروط عند بعضهم، لا يعتبرها آخرون.
القول الثاني: لا يجب التغريب، وهو إلى الإمام إن رأى المصلحة أن يغرب غرب، لكنه ليس من الحد، وليس بلازم ولا واجب، وهذا مذهب الحنفية.
أما الذين قالوا بوجوب التغريب في حد الزنا فقد استدلوا بصحيح السنة في حديثي عبادة بن الصامت وأبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عن الجميع، ووجه الدلالة منهما أن في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد قال صلى الله عليه وسلم: (وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام)، وفي لفظ: (جلد مائة، ونفي سنة)، وقال في حديث عبادة: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام)، قال الجمهور: نص هذان الحديثان على ثبوت هذه العقوبة، والإلزام بها، فدل هذا على وجوبه، وأنه من تمام الحد، وأن حد الزاني البكر غير المحصن أن يجلد، ويغرب سنة كاملة.
واستدلوا أيضاً بقضاء الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعلي، وحكي عن عثمان أيضاً رضي الله عن الجميع، فإنهم غربوا في حد الزنا، قالوا: فهذا كله يدل على أن التغريب سنة كاملة من الحد والعقوبة.
أصحاب القول الثاني قالوا: لا يجب التغريب، وللإمام التغريب إن رأى المصلحة، لكن من حيث الأصل ليس بواجب، وليس من تمام الحد، واستدلوا بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:٢]، قالوا: إن الله عز وجل أمر بجلد الزاني والزانية مائة جلدة ولم يأمر بشيء زائد عن ذلك، وعند الحنفية قاعدة وهي: الزيادة على النص نسخ، فإن قيل لهم: إذا كانت الزيادة على النص نسخ فهذه زيادة ثابتة وصحيحة عن النبي صلى الله وعليه وسلم، قالوا: هي جاءت في خبر الآحاد، والقرآن قطعي، ولا يجوز نسخ القطعي بالظني، فعندهم أصلان: الأول: أن الزيادة على النص نسخ، والثاني: أنه لا يجوز نسخ القطعي بالظني، قالوا: إن الظني -وهو خبر الآحاد- يمكن أن يخطئ فيه الراوي، وتدخل عليه الاحتمالات، والخبر القطعي لا مجال فيه لذلك، فلا يمكننا أن نترك اليقين بالشك، هذا وجه قولهم من ناحية نظرية، والمسألة مبسوطة في الأصول.
وقالوا أيضاً: التغريب فيه عقوبة من لم يذنب.
واستدلوا أيضاً بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نفى شارب الخمر إلى خيبر، فلحق بـ هرقل فتنصر، فقال عمر: لا أغرب أحداً بعد اليوم، هذا حاصل ما استدلوا به.
والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بوجوب التغريب في الحد؛ لما يلي: أولاً: لثبوت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وبهذا قال الجمهور، وهو مذهب صحيح وثابت، ولا إشكال فيه من حيث الدليل.
ثانياً: استدلالهم بالآية الكريمة لا يصح، ونقول: إن الزيادة على النص ليست بنسخ، ولا نسلم لهم أنها نسخ؛ لأن النسخ فيه رفع، والزيادة على النسخ ليس فيها رفع، بل فيها إثبات، وقد تكلم الجمهور على هذه المسألة، وبينوا أن الزيادة على النص ليست نسخاً.
ولو سلمنا جدلاً أنها نسخ، فما المانع أن تنسخ السنة القرآن إذا ثبتت بنص صحيح، ولقد صلى الصحابة رضوان الله عليهم بقباء، فأتاهم رجل فقال: أشهد أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر وقد وجه إلى الكعبة، فتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، وكان عندهم نص قطعي أن يستقبلوا بيت المقدس، وقد رءوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عندهم فيه شك، ثم جاءهم النسخ بخبر الآحاد، وخرجوا عن قطعي ما شاهدوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو أبلغ من الدلالات المحتملة- ورجعوا إلى خبر الآحاد، والقول بأنه لا ينسخ خبر الآحاد النصوص القطعية قول مردود، فالصحابة ما قالوا: كيف نترك اليقين بهذا الخبر؟ هناك يقين، وهناك شك، وهناك درجة بين اليقين والشك ملحقة باليقين، وهي غالب الظن، فإذا جاءنا الخبر من رجل معروف بالصدق ثقة عدل؛ فإنه يغلب على ظننا أنه صادق، ولذلك أباحت الشريعة دماء الناس وأعراضهم، وأوجبت الحدود بشهادة العدلين، فالقصاص يثبت بغلبة الظن بشهادة العدلين، فالشريعة نزلت الظن الغالب منزلة اليقين، وبهذا يبطل ما استدل به الأحناف.