[حكم الصلح مع الإنكار]
الصلح مع الإنكار: اختلف فيه العلماء على قولين: قال بعض العلماء: لا يجوز الصلح إلا على الإقرار، وأما على الإنكار فإنه من أكل أموال الناس بالباطل ولا يجوز، وقالوا: وتوضيح ذلك: أنه إذا ادعي على شخص شيء قال فلان: لي عليك ألف ريالٍ.
فقال: ليس لك عليّ ألف ريالٍ، فأنكر، فإننا لو أجزنا له أن يصالح وهو يعلم أن لفلان عنده ألف ريالٍ، فيسقط الحق الأكثر بالأقل الذي صولح عليه، فأصبح الصلح في هذه الحالة وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل.
وقد يكون أحدهما كاذباً: إما المدعي أو المدعى عليه، فإذا كان المدعي كاذباً والمنكر صادقاً، فقد ادعي عليه زوراً وظلماً، وإما أن يكون العكس فيكون المدعي صادقاً والمنكر كاذباً، وفي كلتا الحالتين يؤكل المال بالباطل.
فإن كان المدعي يدعي والمدعى عليه ينكر ثم اصطلحا والمدعي كاذب فمعناه أن المدعي سيأكل ما اصطلح عليه بالباطل، وإن كان المدعى عليه كاذباً فمعناه أنه سيأخذ جزءاً من مال المدعي زوراً وظلماً ويعاوض بالأقل، لأن الصلح دائماً يكون بأقل من الشيء الذي فيه الخصومة.
قالوا: فهذا يقتضي التحريم، وهذا هو قول الشافعية، وقال به من السلف: ابن أبي ليلى الفقيه المشهور رحمة الله على الجميع.
وذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث رحمة الله على الجميع إلى القول بمشروعية الصلح مع الإنكار، واستدلوا بعموم الأدلة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على مشروعية الصلح دون فرق بين إنكار وإقرار، ولأن الإنسان قد يكون ناسياً لحق الغير فيريد أن يدفع عن نفسه الضرر فيصالحه عن حقه.
وأما قولهم: إن أحدهما كاذب، فجوابه أن الصلح مع الإنكار له حالتان: إما أن ينكر ويكون عالماً أنه مبطل فهذا لا يجوز له الصلح، والجمهور لما أجازوا صلح الإنكار أجازوه بشرط أن لا يكون عالماً بالحق، كشخص لا يدري.
فيحتمل أنه صادق ويحتمل أنه كاذب، ويريد أن يخرج من تبعة هذه اليمين بالصلح.
فالإنسان بشر وقد ينسى، كالتجار يعامل بعضهم بعضاً ثم ينسون مع كثرة الحقوق وكثرة المعاملات، والأقرباء يعامل بعضهم بعضاً، وأصحاب الصنعة الواحدة يعامل بعضهم بعضاً، فنحن نقول: إذا كان أحد الخصمين عالماً بالحقيقة لم يجز الصلح، حتى أن الجمهور الذين أجازوا الصلح اشترطوا -كما سيأتي عند المصنف- أن لا يكون عالماً بالحق، فإذا أصبح غير عالم بالحق انتفى الذي ذكره أصحاب القول الأول.
وبناءً على ذلك يجوز للإنسان على غالب ظنه أن يدعي وينكر، ويجوز له أن يصالح عما ادعى وعما أنكر إذا كان يعتقد أنه على صواب وحق، وذلك لعموم السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (الصلح جائز بين المسلمين) فإن هذا النص الذي رواه الترمذي وابن ماجة وأبو داود وابن حبان وصححه غير واحد -وإن كان الأقوى أنه حسن بالطرق والشواهد- يدل دلالة واضحة على أن الصلح جائز على العموم، سواء كان على إقرار أو على إنكار.
والقاعدة: (أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه) وليس هناك دليل يخصص صلح الإنكار عن صلح الإقرار، فترجح بهذا مذهب الجمهور أنه يصح الصلح على الإنكار كما يصح على الإقرار، ودليل النظر يدل على ذلك، فإن صلح الإنكار كصلح الإقرار بجامع كون كل منهما يقطع الخصومة ويوجب دفع النزاع والضرر المترتب على الخصومة بين الطرفين، وعلى هذا فيشرع صلح الإنكار، كما يشرع صلح الإقرار.