[صفة من يعتد برؤيته]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويصام برؤية عدل ولو أنثى]: أي: يصام شهر رمضان إذا رآه شخص واحد، والعدل المراد به: من يجتنب الكبائر ويتقي في غالب حاله الصغائر.
العدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا فإذا كان مجتنباً للكبائر وهي المعاصي الكبيرة كالقتل والزنا وشرب الخمر ونحوها فهو عدل.
وقلنا: ويجتنب في غالب حاله؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يسلم من الصغائر، وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى ذلك بقوله في الحديث:: (إن تغفر اللهم تغفر جما، وأي عبد لك ما ألما؟).
جماً: أي شيئاً كثيراً.
وأي عبد لك ما ألما: أي: أي عبد من عبادك لم يصب اللمم وهي صغائر الذنوب.
فلا يمكن لإنسان أن يسلم من صغائر الذنوب، وصغائر الذنوب لها أمثلة منها: مثل النظرة، وإن كان بعض العلماء يفاوتها بحسبها؛ فالنظر إلى العورة المغلظة ليس كالنظر إلى الوجه، ونحو ذلك.
فالمقصود أنه إذا اتقى في غالب حاله صغائر الذنوب فهو عدل، أما لو أصر على الصغيرة وداوم عليها فإنه لا يكون عدلاً، ولذلك قالوا: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
فإن صغائر الذنوب تهلك صاحبها، كما أن الجبال تكون من دقائق الحصى، فإن هلاك الإنسان قد يكون بصغائر الذنوب.
ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تنظر إلى معصيتك، ولكن انظر إلى من عصيت)، فإذا كان نظر الإنسان إلى عظمة الله سبحانه وتعالى فإن الصغيرة تصبح في عينه كبيرة؛ لكن إذا استخف بذلك ونظر إلى أنها شيء يسير فقد تهلكه وتوبقه، نسأل الله السلامة والعافية.
فالعدل هو الذي يتقي في غالب حاله صغائر الذنوب، ويمتنع من كبائر الذنوب، فإذا كان كذلك فهو العدل الذي تقبل شهادته، وهو الرضا الذي يعتد بشهادته، أشار الله إليهما بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:٢] وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:٢٨٢] فلا يرضى إلا العدل.
وقوله: (شهد عدل) معناه: إذا شهد غير العدل لم تقبل شهادته، وغير العدل هو الذي يفعل كبائر الذنوب، سواء كانت قولية كأن يكون إنساناً نماماً، أو يكون كثير الاغتياب للناس، فهذا لا تقبل شهادته، وهذه من الكبائر القولية، وأما الفعلية فكشرب الخمر والزنا؛ ولهذا تسقط عدالته ويجب رد شهادته، والسبب ذلك كما يقول العلماء: أنه إذا كان جريئاً على هذه الكبيرة فمن باب أولى أن يجرؤ على الكذب، ومن هنا كان وجود هذه الكبيرة يعتبر دليلاً على أنه غير مأمون؛ لأنه إذا لم يؤتمن على حق الله فمن باب أولى ألا يكون أميناً على حقوق الناس.
أما الحنفية رحمة الله عليهم فعندهم تفصيل في الفاسق، فيقولون: إن الفاسق ينقسم إلى قسمين: الأول: فاسق تحصل بفسقه التهمة.
الثاني: وفاسق لا تحصل بفسقه التهمة.
فالفاسق التي تحصل بفسقه التهمة: كأن يكون معروفاً بالكذب ومعروفاً بارتكاب كبائر الذنوب.
والفاسق الذي لا تحصل التهمة بفسقه: كأن يكون إنسان يشرب الخمر ولكنه لا يكذب، وهذا موجود فإنك قد ترى بعض الناس على سمته أنه ليس بمطيع، وتجده من أبر الناس بوالديه، وتجده محافظاً على العهد لا يكذب ولا يغش، فتجد مظهره على أن عنده بعض الإخلال، لكن تجد في نفسه وفي قرارة قلبه مالا تجده عند من يوصف بكونه صالحاً، فقد تجد الإنسان على سمت ظاهره طيب لكنه كذاب أو غشاش أو خائن -والعياذ بالله- أو سارق أو شارب خمر في الخفية.
فالحنفية رحمة الله عليهم يقولون: العبرة بالأمانة، فإذا عرف بالصدق ولو كان يشرب الخمر أو يزني فإننا نقبل شهادته؛ لأنه لما عرف بالصدق غلب على الظن أنه صادق فيما يقول؛ قالوا: فلا تقوى التهمة في رد شهادته.
والذي يظهر أنه لا تقبل شهادة من طعن في عدالته، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:٦] فأمرنا بالتثبت والتبين والتروي في خبر هذا النوع، فدل على عدم قبوله؛ لأن التثبت والتروي نوع من الرد؛ لأنه لم يقبلها مباشرة، وعلى هذا فالصحيح مذهب الجمهور: أنه لا تقبل شهادته، سواء كان ممن يغلب على الظن صدقه أو لا يغلب على الظن صدقة.