[حكم المحصر عن الحج والعمرة بمرض وما في حكمه]
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن أحصره مرض].
ذكر المصنف رحمه الله مسائل الفوات والإحصار؛ فبين حكم من فاته الحج، وحكم من أحصر عن الوصول إلى البيت؛ سواء كان الإحصار في الحج أو العمرة، ولما فرغ رحمه الله من بيان أحكام المحصر شرع في بيان من أصابه المرض، وكان عليه شديداً؛ بحيث لا يستطيع أن يصل إلى البيت فيدرك الحج أو يأتي بالعمرة أثناء المرض، فهل يجوز له أن يتحلل مباشرة، فيكون حكمه حكم المحصر -كما تقدم- أم أنه ينتظر حتى يبرأ من مرضه أو يقوى على المسير إلى البيت فيؤدي نسك الحج إن أدركه وإلا تحلل بعمرة؟ وقد كثر في هذا الزمان وجود الحوادث التي تقع في الطريق، وهي في حكم المرض؛ فلو أن إنساناً أراد الحج ثم حصل له حادث في الطريق، فأصابه كسر أو مرض في جسده، فلم يستطع أن يخرج، أو كان تحت عناية في علاجه، بحيث يقرر الأطباء أنه لا يخرج قبل الحج، أو أنه لا يمكنه أن يقوم بمناسك الحج حتى فات وقت الحج، فما حكمه؟ قال رحمه الله: [يبقى محرماً] أي: أن من أصابه المرض فلا يحكم بكونه محصراً، وإنما يبقى بإحرامه حتى يبرأ من المرض؛ فإذا برئ من المرض فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون شفاؤه وبرؤه قبل الوقوف بعرفة؛ بحيث يمكنه أن يذهب ويتم مناسك حجه، فالحكم حينئذٍ: أن يمضي ويتم مناسك الحج.
الحالة الثانية: إذا كان برؤه وشفاؤه بعد فوات الوقوف بعرفة؛ فإنه يتحلل بعمرة، ثم يلزمه الهدي، ويكون هذا الهدي بسبب فوات الحج، ثم يأتي بحجة من العام القادم؛ سواء كانت حجته لفرض أو لنافلة.
والعمرة التي يأتي بها يقصد منها أن يتحلل من نسك الحج؛ وذلك لأن الحج قد فاته، فيتحلل منه بعمرة، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر من فاته الحج أن يتحلل منه بعمرة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يفسخوا حجهم بعمرة.
ثم عليه أن يهدي لفوات الحج، وعليه كذلك الحج من قابل؛ فهو في حكم من كان معذوراً بالمرض وفاته الحج لعذر آخر.
وكان من الأعذار المشهورة قديماً: أن يظن الحاج أن الوقوف بعرفة يوم السبت، ويكون الوقوف يوم الجمعة، فيأتي إلى عرفة يوم السبت وقد فرغ الناس من الوقوف، ولا يمكنه أن يدرك الوقوف، فحينئذٍ يكون في حكم المريض، فيمضي إلى البيت ويطوف ويسعى ويتحلل بعمرة، ثم عليه الهدي والحج من قابل.
وفي حكمه أيضاً: من نام عن الوقوف بعرفة؛ كرجل مشى إلى عرفات، ثم قبل أن يصل إليها وبسبب الإجهاد والتعب أراد أن ينام، فنام حتى ذهب وقت الوقوف، ولم يمكنه إدراكه، فحينئذٍ يكون حكمه حكم المريض أيضاً، فيبقى محرماً، ثم يمضي إلى البيت ويأتي بعمرة كاملة يتحلل بها من الحج؛ لأن الحج قد فاته، وقد قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك لما جاءه هبار بن الأسود فقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت أظن أن اليوم يوم عرفة -وكان اليوم الذي جاء فيه يوم النحر- فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ابق كما أنت -أي: بإحرامك- ثم ائت البيت وطف واسع، وتحلل بعمرة، ثم اهد وعليك الحج من قابل).
قال العلماء: في هذا دليل على أنه لما أحرم بالحج فإنه يفسخ هذا الحج بالعمرة؛ لأنه لا يمكنه أن يصبر إلى السنة القادمة وهو محرم، فلو أن إنساناً أحرم بحج، ومرض أو أصابه عذر ولم يمكنه أن يدرك عرفة، فقلنا له: ابق بإحرامك إلى العام القادم؛ فإن هذا فيه حرج ومشقة عظيمة؛ لأنه سيبقى مجتنباً لمحظورات الإحرام وممتنعاً عنها شأنه شأن المحرم، فلذلك خفف الله عز وجل عن عباده.
ومضت الفتوى عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بأنه يتحلل بعمرة، وهذه الفتوى لها أصل شرعي؛ فمن فقه أمير المؤمنين -الذي أمرنا باتباع سنته- أنه انتزع هذه الفتوى من فسخ النبي صلى الله عليه وسلم حج أصحابه بعمرة، فأمر من لم يسق الهدي أن يتحلل بعمرة، ولذلك قالوا: ينصرف من حجه إلى عمرته؛ كأنه فسخ، لا أنه حقيقة قد فسخ حجه بعمرة، بدليل لزوم القضاء عليه من قابل.
وقوله رحمه الله: (ومن أحصر بمرض)، هذا القول الذي اختاره المصنف هو مذهب جمهور العلماء، وهذا المذهب يقوم على أن المرض لا يعتبر الإنسان فيه محصراً، ولذلك قال رحمه الله: (بقي محرماً)، ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله قال: إن من أحصر بالمرض فحكمه حكم المحصر.
وحينئذٍ فحكم المحصر بالمرض: أن يتحلل في مكانه، ويهدي إن كان معه الهدي، وإذا لم يكن معه الهدي صام، ثم يكون حكمه حكم من أحصر بالعدو ونحوه كما تقدم تفصيله.
وقال الجمهور: إن الإحصار يتقيد بالحصر بالعدو -كما تقدم- لقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:١٩٦]، فجعل الله سبحانه وتعالى الأمن مرتباً على الحصر؛ فدل على أن الإحصار ليس مطلقاً، وإنما هو مختص بالحصر بالعدو، على التفصيل الذي تقدم بيانه.
وقوله: (بقي محرماً) فإذا كان الشخص قد أصيب بمرض، ثم انتهى به هذا المرض إلى الموت؛ فإنه يكون محرماً عند الجمهور، وحكمه حكم المحرم عندهم، كما يحدث -نسأل الله السلامة والعافية لنا ولكم ولجميع المسلمين- في مسألة موت الدماغ، كأن ينقلب مثلاً في حادث، أو تأتيه ضربة في رأسه، ويصبح في عداد الموتى، ثم ينتهي به الأمر إلى الموت، أو يصاب بمرض يؤدي به إلى الوفاة، فللعلماء رحمهم الله تفصيل في هذا: فمنهم من قال: إن المريض يعتبر في حكم المحصر، فحينئذٍ لا إشكال في أنه يأخذ حكم المحصر ويتحلل، أما إذا قلنا: إن المريض لا يأخذ حكم المحصر، وإنما يبقى بإحرامه، ونحكم بكونه محرماً، فإنه إذا مات يعامل معاملة الميت الذي وقصته دابته، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس، فيغسل ويكفن ولا يطيب، ويأخذ حكم المحرم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تغطوا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، فيأخذ حكم المحرم.
ومنهم من قال: إذا أصيب بمرض ينتهي به إلى الوفاة، وتوفي بعد الوقوف بعرفة؛ فحينئذٍ إذا تأملت حاله، وجدت أن الحج قد فاته، فبعض العلماء يرى أن عليه دم الفوات في هذه الحالة.
وقال بعض العلماء: لا يجب عليه شيء، وإنما يغسل ويكفن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه)، ثم لم يأمر أهله بإتمام الحج عنه ولا بقضائه، وإنما أعطاه حكماً خاصاً، فمن هنا استثنوه من الأصل الذي ذكرناه.