للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الفتور بعد العبادة]

السؤال

عند الانتهاء من العبادة ومضي زمانها وأيامها يأتيني إرهاق وفتور في العبادة، فكيف أتخلص من هذا الفتور، خصوصاً أني أخشى أن هذا من علامات عدم القبول؟

الجواب

الله المستعان! نسأل الله ألا يحرمنا من فضله، وألا يحول بيننا وبين بره بسبب ما يكون من معاصينا، وهناك أمر مهم جداً، ولعل هذا السؤال متصل بأحب الشهور إلى الله، وهو شهر الصيام والقيام، والإنسان بعد رمضان لاشك أنه سيجد نوعاً من الضعف على الطاعة أكثر مما كان في رمضان، والسبب في هذا واضح.

فينبغي أن يعلم كل مسلم أن الشهور التي فضّلها الله عز وجل وكرمها واصطفاها واجتباها مثل شهر رمضان أن فيها من البركة والخير ما لا يعلمه إلا الله جل جلاله، ولذلك يُنَادى: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، وهذا يدل على أن الموسم موسم رحمة، ولذلك شتان ما بين يوم العيد وآخر أيام رمضان، ولا يظهر الفرق إلا إذا بدأ الإنسان بالابتعاد أكثر فأكثر، وذلك كالشخص الذي يكون قريباً من الجنة وقريباً من رحمة، وقريباً من مكان مؤنس تنشرح فيه الصدور وتطمئن فيه القلوب، فلا يحس بلوعة هذا الفراق إلا إذا تباعد عنه أكثر فأكثر.

وأرجو أن لا يجعلها الله دليلاً على عدم القبول، فليس هناك أرحم من ربك بك، والله أكرم وأحلم سبحانه وتعالى من أن يخيِّب عبده، وخاصة إذا وفَّقه للصيام، ووفقه لقدر ما يستطيع من القيام.

لكن بالنسبة للفتور: فإن هذا الزمان زمان صعب، والفتن فيه كثيرة، والمحن فيه كثيرة، ولا يعلم مقدار غربة المسلم في هذا الزمان إلا الله وحده لا شريك له، فواللهِ أنه لا يستطيع أحد أن يعلم مقدار غربة المسلم في هذا الزمان -الذي بعُد فيه عن عصر نبيه صلى الله عليه وسلم وعن سنته وهديه صلوات الله وسلامه عليه- إلا الله.

لقد كان الإنسان إذا خرج من بيته إلى بيت من بيوت الله جل جلاله وجد حلق الذكر، ووجد الذاكرين، ووجد المساجد ممتلئة بالمصلين والخاشعين قبل الأذان بساعات.

والآن ربما جاء ودخل المسجد وهو في آخر ركعة أو في التشهد، ويرى الناس أفواجاً يقدمون إلى الصلاة، هذا إذا وجد من يصلي، وهذا في الصلاة التي هي عماد الدين، والتي شأنها في الإسلام لا يَخفى، ناهيك عن الطاعات والقربات الأخرى.

ولو أراد الإنسان أن يتصدق بماله لوجد من يخذِّله، ووجد من يسفِّهه، ووجد من يثرِّب عليه، وكأنه فعل ما لا يمكن فعله من الأمور المحرمة العظيمة، فتجد الشخص تطمع نفسه أن يُوقف بيتاً بعد موته، أو يوصي بشيء من خصال البر والرحمة، وإذا بالنفوس الضعيفة والمفتونة تتكالب عليه من كل حدب وصوب، تلومه وتوبخه، وتثرب عليه، وقد تجده منطلقاً إلى مجلس من مجالس الذكر وإلى طاعة من الطاعات، وإلى خير يريده لآخرته، أو علم ينتفع به ويتزود به إلى لقاء ربه، فإذا بأمٍ تثبطه، أو والد يخذله، أو صديق يسفِّهه، وإذا به يجد من يصفه بالنقص وبالجهل بالأمور، وأن عليه أن ينطلق في الدنيا، وأن يؤمن مستقبله.

إلى غير ذلك من الفتن التي لا يعلمها إلا الله جل جلاله.

فلا يعلم مقدار غربة المسلم في هذا الزمان إلا الله، وكلما ارتقت درجته وصار إماماً يصلي بالناس، فإذا بهذا يأتيه ويقول له: طوِّل صلاتك فقد تلذذنا بالقرآن، ثم يأتيه إنسان ويقول له: يا هذا أرهقتنا وأتعبتا وأزعجتنا، ثم يأتيه الثالث ويقول له: في كل يوم وأنت تدرس، وفي كل يوم تلقي كلمة! ويأتيه الرابع ويقول له: أنت تقول كذا وتفعل كذا، فإذا بها أمور تشيب منها الرءوس، وإذا به يُقبل على الإمامة بنفس منشرحة وصدر منشرح للخير والذكر والبر؛ فيجد من العوائق والعلائق ما لا يعلمه إلا الله جل جلاله.

هذا في مسجده؛ فضلاً عن بيته وأهله، فقد يخرج من بيته من أجل أن ينفع أبناء المسلمين خطيباً أو مدرساً أو معلماً في بيت من بيوت الله أو محاضراً، فإذا بزوجته تشتكي وتقول: أَضعت أوقاتنا، وضيعت أبناءك، وفعلت وفعلت، وإذا بإخوانه يقولون له: تعرض نفسك للأسفار.

وهكذا.

فتجد غربة لا يعلم قدرها إلا الله جل جلاله، ولكن طوبى ثم طوبى لمن نَصب وجهه لله، وأنِس بالله إذا استوحش ممن يوحِشه في سبيل طاعة وبر يرجو بها رحمة الله جل جلاله، فطوبى لمن سمَت نفسه وتعلّق قلبه بربه، فلم يبالِ بمن يخذله، فإذا سمع قول المخذلين والمثبطين ارتقت روحه إلى رحمة أرحم الراحمين، فوجد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح ما يجعله يحتقر نفسه وهو في ذرى العلياء من الكمال والفضل والطاعة لله جل جلاله.

هذه كلها فتن تثبط الإنسان عن الطاعة والخير، فإذا كان في موسم الخير كان الأمر أهون، وكان الشر أقصر، ولكن إذا ابتعد عن زمان الطاعة والخير والبر تكالبت عليه هذه الفتن والمحن من كل حدب وصوب، فهذا الزمان زمان غربة، ولا يمكن للإنسان أن يعلم ذلك إلا إذا قرأ الكتاب والسنة وتفحّص، وأعرف الناس بغربة هذا الزمان هم العلماء وأهل العلم الذين كشفوا دلائل الكتاب والسنة، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحاح الآثار والأخبار، فانكشفت لهم حقائق الأمور.

وعلى كل واحد يلتزم بدين الله عز وجل أن يكون قوياً في التزامه، فلا يثبطه ولا يخذله شيء أبداً؛ لأنه ليس بينك وبين الجنة إلا الجد والاجتهاد في العمل الصالح بعد توفيق الله، وهذان أمران إذا حزتهما فقد أصبت الجنة وفزت برحمة الله عز وجل، فعليك بالجد والاجتهاد في طاعة الله عز وجل حتى لا تبالي بأحدٍ لا مادحاً ولا ذاماً.

وأكمل ما يكون للعبد الموفق السعيد الذي يريد الله به خيراً في خاتمته أنه يكره من مدحه أكثر ممن يذمه، وهذه الهمة الصادقة التي يتجه بها العبد إلى الله جل جلاله قلباً وقالباً، وليس لنا إلا الله جل جلاله، فلا تلتفت إلى موسم، ولا إلى وقت ولا إلى زمان.

فلا يكن الإنسان ممن يعرف ربه فقط في رمضان، وإذا ابتعد عن مواسم الخير أصابه التثبيط أبداً، بل كن قوي الشكيمة والعزيمة.

وأُنبِّه على أمر أيضاً: وهو أنه لو وقع الإنسان في حضيض المعاصي، ثم يكون من أشد الناس التزاماً وطاعة، فقد تأتيه فتنة من الفتن.

فهذا زمان غريب، وينبغي علينا أن نعلم ونعلِّم الناس أنه إذا كان الإنسان في زمان الغربة فليعلم أنه سيلاقي في الفتن أكثر ممن يسير على الشوك، ولكن الموفق لا يبالي، فنحن لسنا في عصر الصحابة، ولا في عصر التابعين، ولا في القرون المفضلة؛ بل نحن في عصر القابض على دينه كالقابض على جمر، وإن لم يكن هذا الزمان فلست أدري أي زمان يكون هو! فحينئذٍ مهما وقع الإنسان في فتن من ضعف الطاعة، مثلما ذكر أن الإنسان قد تضعف طاعته، أو حتى لو وقع في معصية؛ فعليه أن يوجه وجهه إلى الله ويشمر عن ساعد الجد بالتوبة النصوح ولا يبالي؛ لأن الشيطان يُخذِّل الإنسان دائماً.

فإذا كنت في رمضان في خشوع وخضوع وإنابة واستكانة لله جل وعلا، ابتلاك الله عز وجل، فتسلط عليك الشيطان فجاءك وقال لك: أنت كذا أنت كذا، حتى تضعف همة الخير؛ لأن الإنسان في بعض الأحيان تكون قوته في روحه ونفسه.

فإذا جاء الشيطان وقال: لو تقبل الله طاعتك في الصيام لكنت الآن من قوامي الليل وصوامي النهار، فأنت الآن لا تقوم الليل، ولا تصوم النهار، فعندها قل: اخسأ عدو الله، فإن الله الذي أرجو رحمته في رمضان أرجوه في شعبان وفي شوال وفي كل زمان، والله الذي أرجو رحمته لو سجدت له حتى تُقبض روحي ما وفّيت شيئاً من حقه، وكل ذلك من فضله، ولو كان من الإنسان ما كان من الطاعة فالفضل كله لله، وقل: اللهم إن قصر عملي فإني أرجو رحمتك، وكم من عبدٍ رجا رحمة الله جل جلاله ففاز بدرجات لم يفز بها من جد واجتهد بذلك؛ لأن هذا الشعور هو التعلق بالله سبحانه وتعالى.

فتستمسك بالذي أوحي إليك، ولو حصل منك ما حصل من الفتن والشهوات وغيرها، فربما تجد العبد من أصلح خلق الله، أو طالب علم، ربما تحدث منه فتنة فيتسلط عليه الشيطان بقوله: لو كنت طالب علم بحق لما وقعت في هذه الفتن، ولو كنت طالب علم لعصمك الله من هذه الفتن.

حتى يُسيء ظنه بالله؛ لأن أهم شيء يتوصل إليه عدو الله هو إساءة ظنك بالله.

ولذلك تجد في بعض الطائعين من الانتكاسة ما لا تجده عند المجرمين -والعياذ بالله- في بعض الأحيان بسب هذا الشعور؛ لأن الشيطان يعلم أن قِوام المسلم في حسن ظنه بالله وكمال اعتقاده في الله، فإذا أصاب هذه الروح الزاكية المتعلقة بربها بالشكوك وإساءة الظن بالله عز وجل؛ فإنه -والعياذ بالله- سيهوي به إلى أسفل سافلين، ولكن لا تبال ولا تهتم ولا تغتم لشيء إلا لرحمة ربك: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).

فتستمسك بالذي أوحي إليك، وتعُظ على الخير والطاعة والبر، فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت طاعة وبراً ذكرت الله وشكرته، وإن تكالبت عليك الفتن عن يمينك وشمالك، ومن أمامك ومن وراء ظهرك، ومن فوقك ومن تحتك، فاستعن بالحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ووجه وجهك للذي فطر السموات والأرض، وقل: اللهم ليس لي من أحد سواك، اللهم كما أرجوك طائعاً فإنه عظُم رجائي فيك مذنباً، وإنه لا يَخيب من رجاك، ولا يُحرم من سألك، وترجو رحمة الله، وتتملق لله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فإذا بالسيئات تبدل حسنات، ومن صدق مع الله صدق الله معه.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يدفع عنا ويصرف عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من فتن المفتونين، ومن ضلال المضلين، اللهم اهدنا ولا تضلنا، وارحمنا ولا تعذبنا، وسامحنا ولا تؤاخذنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، نسألك أن تجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على البشير النذير.

<<  <  ج:
ص:  >  >>