إذاً: هاتان صورتان: سببية ومباشرة، قد تنفرد السببية، وقد تنفرد المباشرة، وقد تجتمع السببية والمباشرة، ومثال اجتماعهما: كأن يكون القتل من شخصين أحدهما متسبب والثاني مباشر، وتوجب الوصف بالعمد.
وهذا على أصح أقوال العلماء في مسألة مشهورة تعرف بمسألة الإكراه، مثل أن يأتي بالسلاح ويقول: يا فلان! اقتل فلاناً وإلا قتلتك فذهب هذا المهدد المكره وقتل الشخص الذي طلب منه قتله، فحينئذ اجتمعت السببية والمباشرة المباشرة بالنسبة للمكرَه الذي هُدد، والسببية بالنسبة للمكرِه الذي دفع وأمر.
فعندنا آمر ومأمور، فالآمر سبب والمأمور مباشر، فيقال: هذا اجتماع سببية ومباشرة، وقد يجب القصاص على الاثنين وقد يجب القصاص على أحدهما دون الآخر.
فيجب القصاص على الاثنين إذا كان كل منهما عاقلاً مدركاً، فجاء الآمر وقال له: إذا لم تقتل فلاناً فسأقتلك، فذهب وقتله؛ لأنه لا يجوز للمسلم إذا هدد بقتله أن يقتل أخاه؛ لأن شرط الإكراه: أن يهدد بشيء أعظم مما طلب منه، والنفس التي سيقتلها مثل نفسه، وحينئذ فلا يكون مكرهاً؛ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه، وحينئذ لا يستباح بالإكراه أن يقتل أخاه المسلم؛ لأنه ليس بمكره.
والإكراه شرطه -كما ذكرنا- أن يكون ما هدد به أعظم مما طلب منه من حيث الأصل، فقالوا: في هذه الحالة يعتبر القصاص على المكرِه والمكرَه، على الصحيح من أقوال العلماء، كما هو مذهب المالكية والحنابلة وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
الصورة الثانية لاجتماع السببية والمباشرة والتي توجب القصاص على الآمر دون المأمور: كأن يأتي إلى شخص مجنون أو إلى صبي غير عاقل وأغراه أو هدده حتى قتل آخر، فالذي باشر القتل لا يقتل؛ لأنه غير مكلف، والذي أمر بالقتل يقتل؛ لأنه ألجأه ودفعه إلى القتل، وكذلك العكس؛ فإذا كان الذي أمر وهدد مجنوناً، فجاء المأمور وقتل، فإنه يقتص من المباشر دون الآمر.
إذاً: هذا بالنسبة للأصول العامة، فهناك سببية وهناك مباشرة.
والأصل أن القاتل لا يوصف بكونه قاتلاً إلا إذا باشر.