بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب حد القذف].
تقدم معنا في المجلس الماضي بيان بعض المقدمات المتعلقة بهذه الترجمة، وذكر المصنف رحمه الله:(حد القذف)، وقد بينا أن بعض الأئمة رحمهم الله يرون أن أشد العقوبات بعد الزنا هو حد القذف، وهذا واضح من جهة وجود الرمي بالفاحشة -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- واختلف العلماء رحمهم الله -بعد اتفاقهم على أن القذف من كبائر الذنوب- هل هو من أكبر الكبائر أو هو من الكبائر فقط؟ فذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله: إلى أن القذف يعتبر من أكبر الكبائر، واحتجوا على ذلك بأدلة: منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته سكت)، قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر من أكبر الكبائر شهادة الزور، قالوا: والقذف شهادة بالزور، وهو قول زور، بل هو من أشد الزور في حقوق عباد الله؛ لأن صاحبه قد ازورّ عن الحق، أي: مال عنه، فقال قولاً خاطئاً في أعراض المسلمين.
وأكدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الربا أكثر من ستين باباً، وأهونها مثل أن يأتي الرجل أمه)، والعياذ بالله! وجاء في اللفظ الآخر:(وإن أربى الربا أن يستطيل العبد في حق أخيه المسلم)، فجعل هذا من أعظم الأمور وأشدها، وهذا يؤكده قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}[النور:٢٣]، فجمع الله لهم بين لعنة الدنيا ولعنة الآخرة، ثم إن الله قطع ألسنتهم وشهادتهم فقال:{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}[النور:٤]، وحكم بعد ذلك بفسقهم، قالوا: فهذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تشدد في أمر القذف، وتبين عظم ما فيه من العقوبة الحسية والعقوبة المعنوية في الدنيا والآخرة، ويقول صلى الله عليه وسلم:(اجتنبوا السبع الموبقات) -قيل: إنها توبق صاحبها، بمعنى: أنها تهلكه- والعياذ بالله (قلنا: ما هي يا رسول الله؟! فذكر منها: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، وهذا كله يؤكد أن القذف ليس بكبيرة فقط، بل هو من أكبر الكبائر وأشدها وأعظمها جرماً والعياذ بالله! بل وأعظمها بلاءً على العبد في دينه ودنياه وآخرته، ولذلك قلّ أن يَسْلَم دين لصاحب لسان يستطيل في أعراض المسلمين بقذفهم والطعن فيهم، وتشويه سمعتهم، وإشاعة السوء بين المؤمنين والمؤمنات، ولمزهم وهمزهم والحط من أقدارهم، ولذلك تجده منطمس البصيرة، قليل التوفيق للحق، قاسي القلب، صفيق اللسان، جريئاً على عباد الله عز وجل، يبدأ بقذف الواحد، ثم يسترسل إلى الثاني وإلى الثالث، يبدأ بالقذف بتهمة وشبهة حتى ينتهي به الأمر -والعياذ بالله- إلى القذف بدون شبهة وبدون تهمة، فبأقل عداوة يقذف ويستطيل، وهذا هو شأن أهل النفاق كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم إذا خاصموا فجروا، فهذا اللسان إذا لم يحكم بتقوى الله عز وجل؛ فإنه مهلكة لصاحبه كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم؟).
ولذلك نؤكد ما سبق بيانه أنه ينبغي على كل من يريد أن يستقيم على طاعة الله أن يعلم أن الاستقامة استقامة قلب وقالب، والله لو زكّى نفسه وزكّاه من في الأرض جميعاً وهو لا يتقي الله في لسانه؛ فإنه سيورد نفسه الموارد، ولن يغنيه عند الله شيئاً ثناء الناس عليه إذا أظلم قلبه وأصبح لسانه سليطاً، فإذا كان بهذه المثابة؛ فليعلم أن العواقب وخيمة، وأن النهاية أليمة، والله الموعد.
وعلى كل حال: فهذا الباب ذكره الأئمة والعلماء من المحدثين والفقهاء رحمهم الله برحمته الواسعة؛ لأنه تضمن جملة من الأحكام والمسائل لخطر عرض المسلم الذي قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بدمه لما خطب خطبة حجة الوداع موصياً للأمة مبيناً لها أمورها المهمة، فقال:(إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام).
فنظراً لاشتمال هذه الجريمة على الكلام في أعراض المؤمنين والمؤمنات بالزور والباطل، ونظراً لاشتمالها على جملةٍ من الأحكام والمسائل ناسب أن يذكرها المصنف رحمه الله، وهذه الجريمة لها عقوبة ولها حد ولذلك ذكرت في باب الحدود.
يقول رحمه الله:(باب حد القذف) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من المسائل والأحكام التي تتعلق بالقذف.