[شروط وجوب الزكاة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [تجب بشروط خمسة].
تجب -أي: الزكاة- بشروط خمسة لا بد من توفرها للحكم بوجوبها ولزومها، وقوله: (خمسة) إجمالٌ قبل البيان والتفصيل، من فوائده: تهيئة السامع، وتشويقه إلى العلم بها أو بتفصيلها.
قوله: [حرية].
الشرط الأول في وجوب الزكاة الحرية، والعبد بالإجماع لا تجب الزكاة عليه من حيث الجملة، فلا تجب الزكاة في أموال العبيد، وإنما تجب على الأحرار.
أما الدليل على أنها لا تجب على العبد: فما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع عبداً وله مال؛ فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع).
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخلى يد العبد من الملكية، فقال: (من باع عبداً وله مالٌ -أي: للعبد مال- فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فدلّ على أن العبد لا ملك له للمال، وإذا كان العبد لا يملك المال فإنه لا يتوجه إليه الخطاب بزكاته، وإنما يتوجه إلى سيده.
وعلى هذا: فزكاةُ مال العبد واجبةٌ على السيد، وهذا مذهب الجمهور.
وقال مالك رحمة الله عليه: لا تجب لا على السيد ولا على العبد، فأسقط الزكاة عنهما، وظاهر حديث ابن عمر يدل على أن الزكاة تتعلق بالسيد، وأنه تجب زكاة مال العبد لكن على سيده لا على العبد؛ وذلك لأنه مال، فهو داخلٌ في عموم الأدلة التي أمرت بأداء الزكاة.
والعبد له أحوال: إما أن يكون مملوكاً بكامله لزيدٍ من الناس، أو يكون بعضه حر وبعضه عبد، فإذا كان نصفه حراً ونصفه عبداً فما الحكم؟ قالوا: تجب الزكاة بقدر ما فيه من حرية، وحينئذٍ يكون مالكاً لنصف ماله، فتجب عليه الزكاة في هذا النصف بما فيه من الحرية.
المسألة الثالثة: إذا كان العبد مكاتباً -وهو الذي يسعى لحريته- فهل تجب عليه الزكاة أو لا تجب؟ للعلماء قولان: أبو ثور وداود الظاهري يوجبان على العبد المكاتب الزكاة، والجمهور لا يوجبون عليه الزكاة؛ لأنه لم تثبت حريته بعد؛ لأنه إذا عجز عن أنجم الكتابة رجع رقيقاً، فدلّ على أنه أثناء أدائه لثمن الكتابة لا يزال رقيقاً، وعلى هذا: فالمكاتب لا تجب الزكاة عليه، وإنما تجب على سيده.
قوله: [وإسلام].
أي: ومن شروط وجوبها الإسلام، فلا تجب الزكاة على كافر؛ فمثلاً: لو أن اليهود والنصارى كانوا أهل ذمة عند المسلمين، فلا نأتي ونقول لهم: أدوا الزكاة؛ إذ لا تجب الزكاة على الذمي؛ لأنه كافر، أما لو كان مسلماً ثم بعد ذلك ارتد، فإنه لا تجب عليه الزكاة، لكنه يطالب بالزكاة الواجبة عليه أثناء إسلامه، فلو أنه وجبت عليه الزكاة مائة ألف، فارتد بعد وجوبها ولم يؤدها بعد، فمن حق الإمام أن يأخذ من ماله قدر المائة الألف؛ لأنه إذا ارتد حُبِسَ ماله في بيت مال المسلمين، يحفظه الوالي، ثم يؤخذ منه بقدر ما عليه من الزكاة قبل أن يرتد، هذه هي الحالة التي تجب فيها الزكاة في مال المرتد، أما إذا كان في حال ردته فإنه لا يطالب بزكاة ماله.
واختلف في نصارى بني تغلب، وفيهم حكمٌ خاص قد يأتي إن شاء الله الإشارة إليه.
قوله: [ومُلك نصاب].
ملكية النصاب شرط لوجوب الزكاة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة) وقال: (ليس فيما دون خمسٍ ذودٍ من الإبل صدقة) فجعل للصدقة حداً سماه العلماء بالنصاب، وهي العلامات؛ لأنها تنصب علامةً على الشيء، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة) كأنه يقول: هذه علامة الوجوب، وما دونها لا تجب فيه الزكاة من الأموال، وما فوقها تجب فيها الزكاة.
وقوله: (ملكية النصاب): أن يكون مالكاً للنصاب، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة) (ليس فيما دون خمسٍ ذودٍ من الإبل صدقة) (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) هذا كله يدل على أن النصاب معتبر، وأن ما دون النصاب لا تجب فيه الزكاة بإجماع العلماء، فالزكاة لا تجب في كل مال، وإنما تجب في أموال مخصوصة؛ بشرط أن يكون الإنسان مالكاً لهذا الحد الذي نصبه الشرع وجعله علامةً على لزوم الزكاة.
قوله: [واستقراره].
أي: واستقرار الملك، وكون المال ليس مستقراً كالوقف على غير معين، فلو أن شخصاً -مثلاً- أوقف بستانه بغلته على الفقراء والمساكين؛ فإن هذا المال مال، لكن ليس له يدٌ مستقرة، فيكون للفقراء في زماننا، وإذا ماتوا وجاء فقراء غيرهم فهو لهم، فيد الملكية ليست بمستقرة.
إضافةً إلى أنه يكون وقفاً على فقراء، ثم هؤلاء الفقراء لو أنهم صاروا أغنياء انتفت عنهم الملكية، وانتقلت إلى غيرهم من الفقراء؛ فهو وإن كان موقوفاً عليهم لكنهم لا يملكونه، وإن كانت غلته يملكونها إذا أخذوها ولكنها ليست بمستقرة، وليست هناك يدٌ ثابتة على هذا المال، ولذلك من أوقف ماله فقد خرجت ملكية المال عنه لله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا قالوا: لو أنك بنيت مسجداً، وأوقفته صار ملكاً لله عز وجل، وليس من حقك بعد بناء المسجد أن تقول: لا يصلي فيه إلا فلان، ولا يدخل إلا فلان، ولا تفعلوا إلا كذا، أو اسمعوا كذا.
لأنه ليس ملكاً لك؛ فهو بالوقفية خرج عن ملكية الإنسان، وأصبح وقفاً لله -أي سبيلاً لله- عز وجل، فملكيته لله سبحانه وتعالى بالنسبة؛ وإن كان في الأصل أننا وما ملكنا ملكٌ لله عز وجل.
فالزروع وسائر الأشجار إذا نبتت في الفيافي، لو أن الشجر نبت في الفيافي والبراري فإنها أموال، لكن ليس هناك مالكٌ معينٌ لها، فلا تجب فيها الزكاة، وإن كانت مالاً وقد تبلغ النصاب، وقد يكون فيها خمسة أوسق من الحبوب، كأن يصيب الغيث أرضاً فتنبت الحب ويكون منها الخير، فإننا لا نوجب الزكاة؛ لأن الملكية هنا ليست بمستقرة وليست بثابتة على المكلف المخاطب بوجوبها.
قوله: [ومضي الحول].
(ومضي الحول) الحول: هو العام الكامل مأخوذٌ من الحال، وشرطه: أن يكون بالسنة القمرية لا بالشمسية، فالحساب في الشرع بالقمرية لا بالشمسية، فمن ملك في يوم، فلا بد أن يعتبر سنة قمرية لهذا اليوم حتى يأتي مثلها في السنة القادمة، والإنسان إذا مكث سنة كاملة يتغير من حالٍ إلى حال، فسمي الحول حولاً لأن الناس تتغير أحوالهم بمضيه.
ولا بد من مضي الحول، فلو أن المائة ألف التي معك ملكتها في اليوم العاشر من رمضان، وجاء اليوم العاشر من السنة القادمة من رمضان وهي معك فإنه تجب عليك الزكاة، فلو أنك قبل اليوم العاشر من رمضان في اليوم التاسع تلف هذا المال أو أوقفته، أو حصل له عارضٌ تزول به ملكيتك أو نقص عن قدر النصاب؛ فإنه تسقط عنك الزكاة ولا تجب ولو قبل غروب الشمس بلحظة واحدة، فلا بد من مضي السنة الكاملة على هذا النصاب.
قال: [في غير المعشر].
قوله: (في غير معشر) أي: الزروع والثمار والحبوب ونحوها مما أوجب الله زكاته حال الحصاد؛ لأن الله تعالى يقول: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:١٤١] فأوجب علينا في الجنات والزروع والنخيل أن نؤدي الزكاة إذا حصدنا، فدل على أنها قبل الحصاد لا تجب، ومن المعلوم: أنك لو حصدت الحب قد يكون مضى عليه أشهر ولم يمض عليه حولٌ كامل، فدل على أن زكاة الحبوب والثمار مستثناة من الحول، والإجماع منعقد على مضي الحول -وفيه حديث عند أبي داود وحسنه العلماء-: أنه ليس في الأموال زكاة حتى يحول عليها الحول؛ لكن هذا النوع من الأموال -الذي هو الزروع والثمار- أوجب الله زكاتها ولو لم يحل عليها الحول، فجعل الزكاة بالحصاد، فإذا حصد الحب وجلبه إلى مسكنه وبيدره، فإنه حينئذٍ يؤدي زكاته بالقدر الذي أوجب الله وسمى في زكاة الحبوب والثمار.
قال المصنف رحمه الله: [إلا نتاج السائمة وربح التجارة].
قوله: (إلا نتاج السائمة) البهيمة: تكون -مثلاً- عندك أربعون شاة، الأربعون بلغت النصاب، هذه الأربعة نمت أثناء العام، والعبرة بمجيء الساعي في حولها، فإذا كانت عندك طيلة السنة مثلاً مائة وعشرون شاة، فيها شاةٌ، وفي الليلة التي جاء فيها الساعي ولدت شاة، فأصبحت مائةً وإحدى وعشرين، فتجب عليك شاتان، فالذي حال عليه الحول تجب فيه شاة واحدة، لكن هذا النتاج تابعٌ لرأس ماله وأصله؛ فحينئذٍ تجب عليك الزكاة بشاتين، ويسمونها الشاة المشئومة من باب الكناية؛ لأنها شاة صغيرة ولكن ضيعت ما هو أكبر منها.
فلو ولدت شاة قبل مجيء الساعي -ولو بيوم واحد أو ليلة واحدة- وأصبح العدد مائة وإحدى وعشرين، وجبت عليك شاتان، فتلزم بدفع شاتين، مع أن الأصل أن في المائة والعشرين شاة واحدة.
فلا يشترط حولان الحول على النتاج.
وبناءً على ذلك قاس بعض العلماء الرواتب وما في حكمها.
يقولون: في الأصل لك الحق أن تجعل الراتب كل شهر تجعل حوله بحوله، فشهر محرم تكتب عليه شهر محرم، وتنتظر إلى السنة القادمة تنفق من شهر محرم، إلى أن يأتي شهر محرم من العام القادم، فإن بقي من هذا الراتب شيء زكيته إذا بلغ النصاب، وإن لم يبق ما يعد به قدر النصاب لا تجب عليك الزكاة، هذا الأصل: أن كل راتبٍ تجعله بحوله المستقل.
لكن إذا صَعُب عليك هذا، ولا شك أنه يفتح باب الوسوسة، ويؤدي إلى حصول الشكوك عند الإنسان وفيه ضيق على الإنسان أن يكتب على كل مبلغ وأن يجعله عنده بأرقامه وكتاباته، فهذا فيه عسر وتعب وعناء، قالوا: إذا لم يرد هذه الطريقة يزكي كسائمة بهيمة الأنعام.
فنقول له: انظر إلى أول شهرٍ استلمت فيه الراتب فتنتظر إلى مثله في العام القادم وتجمع ما عندك، حتى ولو كان من شهر ذي الحجة الذي قبلها بأيام أو بشهر، يجب عليك أن تزكيه على الأصل، هذا بالنسبة إذا كنت تختار الحول لشهر واحد.
أما الطريقة الأولى: فهي الأصل: أن كل راتب شهر بحسبه؛ لكن لو أحببت أن ترتاح، وأن تجعل حول رواتبك حولاً واحداً، في بداية المحرم -مثلاً- استلمت هذا الراتب الذي به يكون قدر الن