[مقدمة عن الحج وبيان أهميته]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول رحمه الله: [كتاب المناسك] هذا الكتاب المراد به بيان أحكام الحج والعمرة، وما يتصل بهما من بيان أحكام الهدي والأضاحي، وما أوجب الله عز وجل في هذه الفريضة العظيمة الجليلة الكريمة، التي هي الركن الخامس من أركان الإسلام.
ذكر رحمه الله كتاب المناسك عقب كتاب الصيام؛ لأنها الركن الخامس من أركان الإسلام؛ مراعاة للترتيب كما في حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً) فلما رتب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأركان بهذا الترتيب، اعتنى الفقهاء رحمة الله عليهم بذكرها مرتبة على هذا الوجه.
المناسك: جمع منسك، والنسك يطلق ويراد به المعنى العام وهو العبادة وحملوا عليه قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:١٦٢] قيل: النسك كل ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، فيكون قوله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي من عطف العام على الخاص.
وأيضاً يطلق النسك ويراد به العبادة الخاصة كالذبح، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (انسك نسيكة) كما في حديث كعب بن عجرة في الصحيحين، أي: اذبح ذبيحة، فالنسك يطلق بمعنى الذبح، وهو الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:١٦٢] أي: ذبحي.
كما قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:٢].
والمناسك المراد بها هنا: أفعال الحج والعمرة، ويشمل ذلك: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، والمبيت بمنى وبقية المناسك، فهذه مناسك الحج.
كذلك أيضاً مناسك العمرة من الإحرام والطواف بالبيت، والسعي بن الصفا والمروة، والحلق أو التقصير.
في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل الشرعية المتعلقة بعبادة الحج وعبادة العمرة.
لقد فرض الله عز وجل الحج على عباده بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:٩٧] وكذلك العمرة -على أصح قولي العلماء- فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده، كما في الحديث الصحيح عند الإمام أحمد في مسنده، والنسائي في سننه: (أن عائشة رضي الله عنها لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل على النساء جهاد؟ قال عليه الصلاة والسلام: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة).
فقال: (عليهن) يعني: أنهن ملزمات، فهي صيغة إلزام، مثل: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:١٠٥] أي: ألزموها.
فدل هذا الحديث على أن العمرة واجبة، فتبين بهذا أن الحج والعمرة كل منهما واجب على الذكر والأنثى، بقيود وشروط سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
فضل الله الكعبة البيت الحرام وجعلها قياماً للناس يقيمون فيها طاعته، ويتقربون إليه سبحانه بأفضل وأحب وأجل ما يتقرب إليه وهو التوحيد.
والله سبحانه وتعالى جعل هذا البيت وهذه المشاعر والمناسك لشيء واحد وهو توحيده سبحانه وتعالى، فتكون العبادة خالصة لوجهه، فالمسلم يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، وكذلك يقف بعرفة، ويبيت بمزدلفة، ويفعل سائر أفعال الحج؛ توحيداً لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك ما من منسك من هذه المناسك إلا وفيه معلم من معالم التوحيد، بل معالم عديدة من معالم التوحيد، قصد منها أن يخرج الإنسان من هذه العبادة وهو أخلص ما يكون لله عز وجل في قوله وفعله وظاهره وباطنه.
وعبادة الحج والعمرة فيها خير كثير من منافع الدنيا، كما أنها تحقق أعظم منفعة في الدين، فإن فيها منافع ومصالح عظيمة دينية ودنيوية.
أما منافع هذه المناسك الدينية: توحيد الله عز وجل، وجمع المسلمين في صعيد واحد ليستشعروا به أخوة الإسلام، وما ألف الله به بين قلوبهم، حتى يحس المسلم أن الله جمع بينه وبين أخيه المسلم بهذا الدين.
ورابطة الدين هي أعز وأكرم وأشرف عند الله سبحانه من رابطة النسب والقرابة؛ ولذلك يجمع الله المسلم مع جيرانه وأهل حيه في اليوم خمس مرات، فإذا تم الأسبوع جمعه مع أهل البادية وضاحية المدينة؛ حتى يأتلف الناس ويحسوا أنه لا فرق بينهم، وأن هذه الأشكال والصور والألوان والأماكن والبلدان لا فرق بينها في دين الله عز وجل، فيركعون ويسجدون خلف إمام واحد، ويتقيدون بهذا الإمام وينصتون إليه، فتجد المليون يستمعون إلى رجل واحد؛ حتى نشعر بالألفة وبالأخوة.
ولا يجتمع على وجه الأرض المليون والمليونان ينصتون لرجل واحد وهو يتكلم؟! ولو اجتمع مائة ألف عجز الناس عن إسكاتهم، ولو جاءوا بعدد من الخلق من أجل أن يُسْكِتُوا هؤلاء المائة ألف لحظة أو ساعة مؤقتة، لكان من الصعوبة بمكان، ولحصل اللغط، ولكن في الإسلام يجتمع المليون والأكثر من المليون ويستمعون لخطيب واحد على صعيد عرفة، لا يتكلمون ولا يهمسون.
وكذلك أيضاً عندما يجتمعون في صلاة الجمعة؛ من أجل أن يشعر المسلم بأخوة هذا الدين، وأن هذا الإسلام جمع بين القلوب وألف بين الأرواح، وهي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك جعل الله عز وجل المسلمين بمثابة الجسد الواحد، وأشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مثل المسلمين في توراتهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
فيجتمعون في الأسبوع على مستوى المدينة والأحياء القريبة من المدينة، فإذا كان يوم العيد اجتمعوا على أبعد من المدينة، وتجد الناس تأتي من أماكن بعيدة من أجل شهود العيد داخل المدينة.
كل ذلك من أجل جمع القلوب وتآلف الأرواح: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:٦٣] وهذا هو مقصود الإسلام، ولذلك يقول بعض العلماء: إن الله امتن على عباده بالألفة والأخوة والتواد والتراحم قبل منَّةِ الدين، فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:١٠٣] فجعل نعمة الاعتصام والائتلاف والتواد والتراحم واجتماع الكلمة قبل قوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:١٠٣] وهذا يدل على عظيم أمر الائتلاف والاجتماع والاعتصام بحبل الله عز وجل.
وهذا مقصود ومراد في الحج، ولذلك يجتمع الناس بإمام واحد، ولا حج إلا بإمام، ويدفعون بدفع الإمام، وتراهم جميعاً بثوب واحد وزي واحد، وعلى هيئة واحدة، وفي مقام واحد وصعيد واحد، كل ذلك لكي يشعروا بأخوة الإسلام وما ربط الله عز وجل بينهم.
كذلك من مقاصد الحج: أن المسلم يجتمع بأخيه المسلم، يسأله عن حاله وأشجانه وأحزانه، فإن وجد خيراً حمد الله، وأمره أن يشكر الله على فضله، وإن وجد غير ذلك ثبته وقواه، ودعاه إلى الاعتصام بحبل الله، وتواصى المسلمون بالثبات على الحق إلى الممات، والصبر على ما يكون من بلايا الدنيا ومصائبها، فتجدهم متآلفين متعاطفين متكاتفين متراحمين متواصلين كالجسد الواحد، فالمسلم الذي في مشرق الأرض يتأوه لأخيه المسلم الذي في مغرب الأرض؛ وما ذلك إلا برابطة هذا الدين.
فالمقصود من الحج: جمع الكلمة وائتلاف القلوب.
أما المنافع والمصالح الدنيوية من المناسك: التجارة وغيرها.
ولقد فضل الله أهل البيت الحرام فساق إليهم الخيرات، وجعل بلدهم آمناً مطمئناً تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً منه سبحانه؛ لكي يشكروه ويحمدوه ويعظموه، فحق جيران بيت الله الحرام آكد من غيرهم، فلما رأوا الناس تتوافد عليهم، من كل حدب وصوب شعروا بحرمة هذا البيت، وشعروا بنعمة الله عليهم وفضل الله عليهم بأن جعل القلوب تهوي إلى هذا البيت! يُسأل المسلم في أقصى الشرق عن أمنية عزيزة عليه، فيقول: أتمنى أن أرى البيت الحرام، وأن أحج، وأن أعتمر.
وهذا كله لاشك يدعو الإنسان أن يشعر بنعمة الله عز وجل عليه.
ومن مصالح الحج الدنيوية أن يجتمع الناس ويتعرف بعضهم على بعض، وتتعرف على عادات وتقاليد، وترى أشياء وصنوف عجيبة غريبة من تصرفات الناس وأفعالهم، فترى الحكيم بحكمته والجاهل بجهله، فإن وجدت خيراً تعلمته، وإن وجدت غير ذلك حمدت الله على نعمته وفضله عليك.
ففي الحج غايات عظيمة وأسرار كريمة، فليس المقصود أن الإنسان يحج من أجل أن يصيب هذه العبادات خالية عن هذه المعاني.
وقال بعض العلماء: من أعظم معاني التوحيد في الحج أن الحج يذكر الإنسان بالآخرة، فإن الإنسان من أول لحظة في الحج إذا خرج من بيته يتوجه إلى الميقات، فيأتيه أمر الله عز وجل في الميقات أن يتجرد من ثيابه، وأن ينزع عنه المخيط.
فإذا تجرد من ثيابه تذكر إذا جرده أهله من ثيابه حين يموت ليغسلوه، هو اليوم يجرد نفسه؛ ولكنه غداً يُجَرَّدَ.
ثم إذا لبس ثياب الإحرام فإنه يتذكر لبس الأكفان، وعندما يلبس ثياب الإحرام فإنه يمنع من الطيب، ومن قص الشعر، ومن الترفه، فيتذكر أنه إذا صار إلى قبره يحال بينه وبين أي شيء من ملاذ الدنيا ومتعها وما فيها من الشهوات والملهيات، كذلك هو في حجه يُمنع من هذه الأمور لكي يتذكر الآخرة.
ثم إذا صار إلى صعيد عرفات تذكر وقوف الناس بين يدي الله عز وجل حفاة عراة غرلاً، فيتذكر مثل هذه المواقف؛ ولذلك يقولون: الحج يعين على تذكر الآخرة.
ومن غايات الحج وأهدافه وأسراره: أنه يقوي شكيمة المسلم، ولذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بكونه جهاداً، فتتعود على التغرب عن الأوطان، ولذلك جعل الله عز وجل شهواتك تستجيب لك، ولس