للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[دية الجنين]

قال رحمه الله: [ويجب في الجنين ذكراً كان أو أنثى عشر دية أمه غرة].

هذا النوع الثالث من المنقصات وهو: الجنين، والجنين: من جن الشيء إذا استتر، وتوارى عن الأنظار فلم يرَ، ومنه سمي البستان جنة؛ لأن من دخل البستان سترته أشجاره وزروعه.

وسمي الجن جناً؛ لأنه مستور عن الأنظار ولا يرى، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:٢٧].

فأصل الجن هو: الاستتار، وسمي المجن وهو الدرع؛ لأنه يقي الإنسان ويحفظه من الضربات أثناء القتال، وقال صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة) أي: أنه وقاية للعبد من النار، قال بعض العلماء: المراد بقوله: (الصيام جنة) أنه إذا ضرب الصراط على متن جهنم، وأمر الناس أن يجتازوا كان الصوم وقاية من كلاليب النار، فمن حفظ صومه تاماً كاملاً حفظه الله من ناره، ومن ضيع خطفته الكلاليب على حسب ضعف هذه الجنة؛ لأنها وقاية، فالجن والمجن هو الساتر هو الاستتار.

لو حصلت جناية على نفس فإنها تضمن بديتها كاملة، هذا الأصل، لكن الجنين نقص عن هذا، وجاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء، والجناية على الجنين لها صور.

تارة تكون جناية عمد مثل المرأة الحامل تختصم مع غيرها -ذكراً أو أنثى- فيضربها على بطنها، فيقتل جنينها فتسقطه، هذه صورة من صور العمد، أو يكون الطبيب قاصداً إسقاط هذا الجنين متعمداً لقتله بعد ثبوت حياته, فيعطيها دواء ليقتل الجنين في بطنها ثم تسلبه وتسقطه، هذه جناية عمد كذلك إذا تحقق وثبت أنه حي.

ومن الجنايات: جناية الخطأ وشبه العمد في الاختصام، مثل أن تقع خصومة بين امرأتين ولا تقصد قتل جنينها فتضربها، فمن أثر الضربة تسقط المرأة، أو تأتي الضربة في مكان قريب من الجنين فلا تتمالك المرأة فتسقط جنينها، فهذه تعتبر عند العلماء رحمهم الله والجمهور شبه عمد.

ومن قتل الجنين والاعتداء عليه: الاعتداء على سبيل الخطأ؛ مثل أن يعطيها أحد دواءً ولا يعلم أن هذا الدواء يترتب عليه إسقاط الجنين، فتسقط جنينها.

كذلك المرأة نفسها تستعمل الدواء فتخطئ في الدواء فيسلب هذا الدواء جنينها، كل هذه صور من صور إسقاط الأجنة والاعتداء عليها.

هذه المسألة -الاعتداء على الجنين- فيها قضاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقعت حادثتان -فيما شهر- الحادثة الأولى: لمرأتين من هذيل، والحديث في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن امرأتين من هذيل اختصمتا، فضربت إحداهما الأخرى فقتلتها فأسقطت ما في بطنها وقتلت الجنين).

كذلك أيضاً في الحديث الآخر وهو صحيح: في اختصام امرأتين من بني لحيان اقتتلتا فضربت إحداهما الأخرى فأملصت وأسقطت جنينها.

وجاء عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين أنهم عملوا بهذا القضاء، فـ عمر رضي الله عنه وقعت في عهده هذه الحادثة -وهي الاعتداء على الجنين- فقام رضي الله عنه خطيباً في الناس وقال: أحرج بالله على من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر قضاء أن يخبرنا، فقام له المغيرة بن شعبة فقال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.

وذكر له الحديث، فقال له: لتأتيني بمن يشهد معك، فقام محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأرضاه وشهد معه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في إملاص المرأة بغرة وليدة عبد أو أمة.

الغرة هي من أنفس المماليك، وأصل الغرة: البياض في جبين الفرس، وفي قوائمه: التحجيل، ومنه الحديث: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء).

والقضاء بثبوت الغرة شبه مجمع عليه، وفيه بعض الخلاف الشاذ لكن لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضى به جماهير السلف والخلف رحمهم الله.

ولابد من وجود أمور حتى نحكم بهذا القضاء، فإذا اعتدى أحد على الجنين لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تسقط المرأة الجنين حياً ثم يموت.

الحالة الثانية: أن تسقط الجنين ميتاً.

فإذا أسقطت الجنين حياً من أثر الضربة، فلا يخلو إما أن يعيش فترة وجيزة جداً أو يموت مباشرة بعد سقوطه، والضابط عندهم في ثبوت الحياة: أن يتحرك حركة قوية أو يصيح؛ مثل رفع اليد ورفع الرجل، هذه تثبت الحياة، ولذلك يثبت له الإرث، وتترتب عليه أحكام الحي.

فإذا سقط الجنين حياً وثبت بقول أهل الخبرة، أو ظهرت الدلائل على أن موته وسبب موته بفعل الجناية، فهذا فيه دية كاملة ذكراً كان أو أنثى، على نفس التفصيل الذي تقدم معنا.

وإذا قصد قتله فهذا قتل عمد، فإذا ثبت وأقر أنه قصد قتله عمداً وعدواناً فلا إشكال، فيه القصاص على التفصيل الذي تقدم معنا.

من حيث الأصل عند أهل العلم رحمهم الله: أنه إذا نزل الجنين وسقط مباشرة بعد الضربة أو وجدت الآثار والدلائل الواضحة على أن هذا السقوط كان بفعل الضربة، وأنه أثر في الجنين حتى مات، وكان موته بسبب الإسقاط والإملاص، فإنه حينئذٍ يكون حكمه ثبوت الدية كاملة إذا عدل عن القصاص، على التفصيل من حيث كونه عمداً أو خطأً.

لكن لو عاش هذا الجنين بعد الإسقاط وبقي فترة ثم مات، وقال الأطباء: إن موته الغالب فيه ليس بسبب الإسقاط، فحينئذٍ لا ضمان فيه.

إذاً: إذا سقط حياً ومات بفعل السقوط بسبب الإملاص والضرب والاعتداء ففيه ما فيه من الاعتداء على الحي؛ لأنه اعتدى على جنين حي وأضر به وأزهق روحه إن كان أدى إلى موته، وحينئذٍ يضمنه بما يضمن به الزهوق في حال الاعتداء والقصاص، وإذا عفوا فالدية.

لكن الذي يهمنا: أن الدية لا تنقص؛ لأنه في هذه الحالة جناية على روح ونفس لها ما للأنفس، سواء كان الجنين ذكراً أو كان أنثى، هذا الأصل.

الحالة الأولى: أن يعيش فترة ويثبت أن موته بعد عيشه بسبب آخر، فحينئذٍ لا ضمان عليه؛ لأنه مات بسبب لا دخل للجاني فيه.

الحالة الثانية: أن يسقط الجنين ميتاً؛ فإما أن يكون كامل الخلقة أو يكون ناقص الخلقة، فإذا أسقطت جنيناً كامل الخلقة أو ناقص الخلقة بل حتى لو أسقطت وليس فيه من صور الآدمي -كما لو أسقطت قطعة لحم فيها تخلق يد أو رأس أو رجل- فهذا هو الذي يضمن بالغرة.

وهذه الغرة: عبد أو أمة وليدة، واختلف العلماء، فبعضهم يقول: ما بين سبع سنوات إلى عشرين سنة، والأنثى لا تبلغ أكثر من عشرين، وهو أحد القولين عن الشافعي، وقيل في الذكر: لا يزيد عن خمسة عشر سنة، وقال بعض العلماء: إنه غرة وليدة أو عبد سواء حتى ولو كانت كبيرة، لكن يشترط في هذه الغرة أن تكون سالمة من العيوب، فلا يجزئ أن تكون هرمة، أو يكون شيخاً هرماً، ولا يجزئ أن تكون معيبة بنقص في الخلقة: كالعور، والعرج، والشلل، والصمم والبكم ونحو ذلك من العيوب التي تقدمت معنا.

فيجب أن تكون سالمة من العيوب، ولا تضمن الجناية بغرة معيبة، ويشترط في إثبات الضمان بالغرة أن ينفصل هذا الجزء، فلو أنها أخرجت يداً أو رجلاً أو قطعاً من اللحم فيها صورة تخلق الآدمي يشترط أن تنفصل، ولا تكون متصلة، لكن لو أنها أخرجت يداً ثم ماتت ولم ينفصل، وجاء عن بعض العلماء أنه لا ضمان عليه، والضمان على النفس التي هي الأم، ويفصل فيها إذا كان الاعتداء بالجناية عمداً أو خطأ، هذا من حيث الأصل.

(فيها وليدة) الوليدة تعادل عشر دية الأم، ولذلك قضى الخلفاء الراشدون ومنهم عمر رضي الله عنه بأن الغرة تعادل خمساً من الإبل؛ لأن الدية مائة بالنسبة للذكر، وخمسون بالنسبة للأنثى، وعشر الخمسين خمس من الإبل، ولذلك تضمن بهذا القدر (خمس من الإبل) وهناك رواية صححها بعض العلماء عن عمر رضي الله عنه أنه جعل العدل خمسين ديناراً أو ستمائة درهم، وهذا على نفس الأصل؛ لأنها تعادل خمساً من الإبل، وهذا عشر الدية، فإذا ثبت أنها عشر الدية فبعض العلماء يخصها بالإبل، وإذا قلنا: إن الذهب والفضة أصول يصبح عشر دية المرأة من الذهب هو خمسون ديناراً؛ لأننا بينا أن ألف دينار هي الدية، والمرأة ديتها خمسمائة دينار، وعشر الخمسمائة خمسون، وبالنسبة للفضة فهي اثنا عشر ألف درهم، ونصفها ستة آلاف درهم دية المرأة، وعشر الستة آلاف درهم ستمائة درهم، وبعض العلماء يقول: لا نعطي إلا خمساً من الإبل، والخمس من الإبل تعادل الوليدة.

الجواري والعبيد ما عادوا موجودين في الوقت الحاضر، ففي هذه الحالة إذا قلنا: إن الإبل أصول والذهب والفضة عدل الإبل، ينظر قيمة الخمس من الإبل كم تعادل، وإذا قلنا: إن الذهب والفضة أصول، فحينئذٍ ننظر كم تعادل الخمسون ديناراً؟ وكم تعادل الستمائة درهم؟ لكن إذا قلنا: إنها عدل عن الإبل فحينئذٍ تنظر إلى قيمة الخمس من الإبل، ولربما كانت قيمة الخمس من الإبل مائة دينار، ولا تعادل خمسين ديناراً، وهذا هو الفرق؛ فأنك إذا جعلت الإبل هي الأصل وألغيت الذهب والفضة في الغرة فحينئذٍ تقول: انظر إلى قيمة الخمس من الإبل بالغة ما بلغت، إذا ما تيسر وجودها يدفع عدلها.

من حيث الأصل قالوا: إن خمساً من الإبل تعادل الغرة، وهي عشر دية الأم.

قوله: [وعشر قيمتها إن كان مملوكاً].

أي: قيمة الأم، إن كان الجنين مملوكاً، صورة المسألة: أن يعتق سيد أمة ويستثني ما في بطنها، فيكون ما في بطنها وهو الولد مملوكاً له، فمثلاً: لو أذن لأمته أن تتزوج وتزوجت عبداً، فلما تزوجت عبداً أعتقها، وإذا أعتقها يكون لها الخيار -كما تقدم معنا في النكاح- فإذا حملت من هذا المملوك فالولد تابع لأمه رقاً وحرية؛ لكن المولى استثنى هذا الجنين وقال: هذا الجنين ملك لي، يعني: أعتقها وأستثني جنينها الذي تحمله في بطنها، وهذا وجه عند العلماء، فيجوز أن يعتق الأمة ويستثني ما في بطنها، فإذا استثنى ما في بطنها فحينئذٍ تنزل الأم -التي قد أعتقت وأصبحت حرة- منزلة الأمة فتقوم كأنها أمة، وينظر كم قيمتها فيدفع عشر القيمة، والسبب في هذا واضح؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا: إن الغرة تعادل الخمس من الإبل كما ذكرنا، وهي بهذه الحالة تعادل عشر دية المرأة.

وفي الرقيق قلنا: إن المعتبر في ديته النظر إلى ما أنقصته الجناية من قيمته.

قوله: [وتقدر الحرة أمة].

ال

<<  <  ج:
ص:  >  >>