للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بعض آداب طلب العلم]

السؤال

إن من النعم الكبيرة عليّ أن أصحب طلاب العلم، وأن أحضر هذه المجالس، وأحتاج كثيراً إلى أن تذكرنا بشيء من الآداب التي ينبغي علينا أن نراعيها خاصة في هذه المجالس المباركة، أثابكم الله؟

الجواب

بارك الله فيك، نِعم السؤال، والله إنها نعمة عظيمة من الله عز وجل أن يوفق السائل في سؤاله، وكم من أسئلة أحيا الله بها موات القلوب، وأنار الله بها البصائر، فالموفق في سؤاله عظيم أجره إذا أخلص لربه، وأراد الخير للمسلمين، وهذا من النصيحة لعامة المسلمين.

السؤال المفيد ينفع من في الدرس، وينفع كل من يستمع إلى هذا الشريط، فلا شك أن المسلم يبحث عن أمور مهمة جداً، وأي خيرٍ وأي بر أعظم من أن يكون الإنسان في طاعة الله عز وجل، ومرضاته سبحانه وتعالى، وأي شيء أفضل أن يُسأل عنه، مثل طاعة الله سبحانه وتعالى، والسبيل الأمثل والمنهج الأقوم في تلمس مرضاة الله سبحانه وتعالى، وإلا فمن أعظم ما يُسأل عنه نعم الله التي تغدق على العبد صباح مساء، وإن الله إذا أراد أن يسعد عبداً من عباده جعل النعمة بين عينيه؛ فعرف حقها وعرف قدرها، فاعتقد فضل الله في قلبه، ولهج بالثناء على الله بالشكر بلسانه، واستخدمها في طاعة الله بجوارحه وأركانه، فعندها تتم نعمة الله مباركة على ذلك الولي الصالح.

كم من عبد ترسل عليه النعم إرسالاً، ويتقلب فيها صباح مساء، ولكنه لم يشعر بحقها ولا بقدرها حتى عاقبه الله عز وجل بزوالها، فبكى حين لا ينفع البكاء، وندم حين لا ينفع الندم، والله لو تقلب الإنسان في العلم من أخمص قدميه إلى شعر رأسه، وهو لا يُحس بنعمة ربه؛ لم يبارك له في ذلك العلم، ولو أوتي اللسان الذي تحار العلماء والحكماء في فصاحته وبلاغته، ولم يشكر ربه؛ فلا خير في قوله.

الشكر هو الذي قرن الله به الزيادة، ولو أن العبد كان أرفع ما يكون نسباً، وأعظم ما يكون طاعة لله عز وجل، وأعطي نعمة من نعم الله ولم يشكرها، لم يتأذن الله له بالمزيد؛ لأن الله يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:٧]، وعلى هذا فحري بكل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى نعم الله عز وجل، وأن يعرف حقها وحقوقها، وهل هناك نعمة أعظم من نعمة الإيمان، ثم بعدها نعمة العلم الذي يعبد العبد به ربه على نور من الله، يرجو رحمة الله ويخشى عذابه.

هذا العلم حقيق بالمسلم ألا يكتب فيه حرفاً، ولا يسمعه ولا يقرأه، إلا ونعمة الله شاهدة بين عينيه، قد جرت في دمه وعروقه من كمال إخلاصه لربه، حريٌ بكل إنسان يريد أن يطلب هذا العلم أن يعرف مقدار نعمة الله عز وجل عليه، كما قال الله عز وجل لنبيه: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:١١٣]، وإذا كان الله يعلم نبيه مقدار النعمة التي أنعم بها عليه، فخليق بكل مسلم أن يُذكر بذلك، وخاصة طلاب العلم، والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء.

جثا العلماء على الركب، فجرت مدامعهم، وخشعت قلوبهم، ولهجت ألسنتهم بالثناء على ربهم، أذلة صاغرين بين يدي الله رب العالمين؛ تواضعاً لنعم الله عز وجل عليهم.

يا معشر طلاب العلم! إن الساعات واللحظات والمجالس التي تجمعكم في ذكر الله ومرضاته نعمة لا يمكن أن توازيها نعمة على وجه الأرض، هل هناك أحد أشرف من عبد يقرأ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فيهما من حكم وأحكام، قد فرغ لها قلبه، وأشغل بها وقته؛ كل ذلك طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وهل خلق العبد إلا لهذا؟! طالب العلم الموفق السعيد الذي حين يخرج من بيته يقول: يا رب! لك الحمد أن أخرجتني لطلب العلم، ولم تخرجني أشراً ولا بطراً ولا غروراً ولا رياء ولا سمعة، ولم تخرجني إلى حرام ولا إلى فحش وآثام، يا رب! من أنا حتى تختارني لكي أجلس فأسمع كلامك وكلام نبيك عليه الصلاة والسلام، وكلام العلماء؟! فلنحمد الله عز وجل ولنشكره، كل طالب علم يريد أن يتأدب في مجلس العلم، عليه -قبل أن يجلس في مجلس العلم- أن يعرف نعمة الله عز وجل عليه بالعلم، فلا يمكن أن يتأدب في مجالس العلماء إلا من عرف مقدار نعمة الله عليه بالعلم، وكم من إنسان رزقه الله عز وجل هذا الشعور، فسعد به سعادة لم يشق بعدها أبداً، كم من طلاب علم بينهم كما بين السماء والأرض من الدرجات والحسنات والمثوبات من الله جل وعلا؛ بسبب هذا الشعور، إن الإنسان حينما يمضي إلى مجلس العلم وليس في قلبه إلا الله، معظماً لنعمة الله، لاهجاً لسانه بشكر الله، معتقداً في جنانه أن الفضل -كل الفضل- لله؛ فهو أعظم عند الله أجراً، وأعظم عند الله ثواباً، وأكثر إخلاصاً وقرباً من رجل يخرج من بيته ساه عن نفسه، غافل عن نعمة ربه، لا يشعر إلا أنه حامل لكتابه، يذهب ثم يرجع ولم يشعر أن الله قد أنعم عليه بنعمة، وعندها تكون المصيبة -بل المصيبة الأعظم- حينما يحس أنه قد بلغ مبلغاً رفيعاً حينما يجلس مجلس العلم ويسمع الحكم والأحكام، فيحس أنه يفهمها قبل أن يُفهمه ذلك العالم أو من يستمع إليه.

نعم، علينا أن نتذكر أولاً مقدار نعمة الله عز وجل علينا بالعلم.

ثانياً: كيف يتأدب الإنسان؟ أول شيء يجب أن تسأل عن أخلاق المسلم مع المسلم عامة، فهناك أخلاق أدبنا الله عز وجل بها: أولها: صفاء القلب، فلا يمكن للإنسان أن يجلس في مجالس العلم فيتأدب مع الصغير والكبير، إلا إذا صفا قلبه، وخلص من الشحناء والبغضاء واحتقار المسلمين، فأول ما يوصى به الإنسان أن يخرج من بيته وهو يتقي الله في قرارة قلبه، لا ينظر في الناس إلى ألوانهم، ولا إلى أحسابهم،، ولا إلى أموالهم، ولا ينظر إلى جاههم، لا ينظر إلا إلى تقوى الله جل جلاله، وعندها لو رأى رجلاً مرقع الثياب وأخلق الحال سيراه كما يرى أعظم الناس وأغناهم؛ لأنه بتقوى الله كان شيئاً كبير، فأول شيء: تطهر القلب، ولذلك لن تجد طالب علم يسيء مع طالب علم الأدب؛ إلا وجدت المسيء يحتقر أخاه، ولم يبدأ بسلوك المسلم مع أخيه المسلم بنقاء قلبه، قال صلى الله عليه وسلم -يشير إلى هذا المعنى-: (بحسب امرءٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) يجب أن نستل من قلوبنا هذه الضغائن، وهذه المعاني الرديئة التي لازمها الناس في دنياهم، وأن نحسن بطلب العلم سلوكنا، فطلب العلم أرفع وأقدس من أن نجعل الدنيا أكبر همنا، ومبلغ علمنا، وغاية رغبتنا.

ثانياً: إذا جاء الإنسان إلى مجلس العلم عليه أن يحب جميع إخوانه في الله عز وجل، وأن ينظر إلى أمة اصطفاها الله واجتباها؛ لكي تحمل دينه، وتحمل شرعه إلى الأمة، أن ينظر إلى هؤلاء الذين قضوا وقتهم في ذكر الله عز وجل ومرضاته، وما يُدريك فلعل من بينهم أئمة سيُهتدى بهم غداً، وما يُدريك كم فيهم ممن سيسد الله بهم ثغور الإسلام غداً، وما يُدريك كم فيهم من شموس ستضيء أنوارها بإذن الله عز وجل في الغد القريب، وما ذلك على الله بعزيز.

فكم من علماء وأئمة كانوا في أقدارهم صغاراً -وهم طلاب علم- رفع الله أقدارهم لما أخلصوا، ووطنوا أنفسهم لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فإذا شعرت أنك تجلس بين أناس سيصطفيهم الله عز وجل، وتحسن الظن بالله؛ فإن الله ذو فضل عظيم، فتحس أنك أمام أناس لهم فضل عليك، ولهم حق عليك أن تحبهم، وأن توقرهم، وأن تجلهم، وأن تنوي لهم كل خير، وأن تعتقد لهم الفضل من الله عز وجل.

ثالثاً: إذا جلست معهم فاحرص كل الحرص أن تكون خير طالب علم لأخيه، فتنافس في الخير، فإذا دخلت المسجد فادخل ولسان حالك يقول: يا رب! اجعلني خير الناس في هذا المسجد، اللهم اجعلني خير الناس في هذا المسجد، اللهم اجعلني أعظم الناس أجراً عندك في دخولي هذا؛ لأنه مكان تنافس وتسابق للخير والبر داخل المسجد، وتقول: يا رب! لا تجعلني محروماً، ولا تجعلني شقياً، اللهم لا تحرمني خير ما عندك بشر ما عندي، فإذا دخلت المسجد فادخل وأنت تطمع أن يجعلك الله خير طالب علم مع أخيه، وخير صديق لصديقه، وخير أخ لمحبه، فإن الله عز وجل يعظم أجرك، لهذا تنال الخيرات والمرضاة، حينما تدخل وعندك شعور بأنك تسمو إلى مرضاة الله عز وجل، والطمع في رحمة الله عز وجل أن يرزقك القول السديد والعمل الرشيد، وأن تكون مع أحبتك وإخوانك كأحسن وأجمل وأفضل ما يكون عليه طالب علم مع أخيه.

رابعاً: أن تعلم أنك مهما جالست ومهما صاحبت، فكل من جالسك شاهد لك أو عليك، فهنيئاً ثم هنيئاً لمن جالس صفوة الله عز وجل من خلقه بعد الأنبياء والعلماء، وهم طلاب العلم، فلم يشهدوا له إلا بخير.

من طلاب العلم من جلس في مجالس العلم السنين المتتابعة، ويعلم الله أنه ما آذى أخاً له في الله، من طلاب العلم من جلس في مجالس العلم، والله يشهد أنه ما أساء إلى مسلم فيها، ومنهم من جلس في مجالس العلم السنوات تلو السنوات، فما قام من مجلس إلا وقد فاز بعظيم الأجور والحسنات ورفيع الدرجات، اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! خامساً: على الإنسان أن يسمو بنفسه ثم عليه -بعد ذلك- أن يوطن نفسه بالكلام الطيب واللين، وأن يعلم أن الناس -خاصة في هذا الزمان المليء بالفتن والمحن- قد امتلأت صدورهم من الهموم والغموم والكربات، فإذا مر عليك أخوك ولم يسلم عليك؛ فالتمس له عذراً، وإذا رأيته عابس الوجه فقل: لعل أخي نزلت به مصيبة، اللهم فرج كربه، اللهم نفس عنه، اللهم يسر له أمره، ولا تسئ به الظن.

ثم النقطة السادسة: الحذر من أن ينشغل طالب العلم بغيره عن نفسه، وأن ينشغل بنفسه عن ربه، لا تشتغل بالناس عن نفسك، البعض بمجرد ما يجلس يجلس يستكشف الحال، ينظر عن يمينه وعن يساره ومن أمامه ومن خلفه، ولو وجد ما ينظر إليه إلى سابع أرض لنظر إليه، هذا ليس بطالب علم، يجلس حتى يكتب في الأسئلة، بعض طلاب علم يفعلون، وبعض طلاب علم يكتبون، يشتغل بعيوبهم، ويشتغل بمثالبهم، هل طلاب العلم الذين أمامك ملائكة وأنبياء معصومون؟ هم بشر يخطئون كما يخطئ غيرهم، ولكنهم بما فيهم من الخير -نحسبهم بما وطنوا به أنفسهم من طاعة الله ومرضاته، وبما غلب عليهم من الحرص على الخير- هم أسمى وأحب إلى قلوبنا من غيرهم، والإنسان إنما يرجى بثقل الحسنات.

فإذاً لا تلتفت إلى عيوب إ

<<  <  ج:
ص:  >  >>