قوله:(ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع) هذه مسألة ثانية تتركب على مدة الخيار، فالآن حينما يبيع البيت، أو يبيع العمارة أو يبيع الحيوان أو يبيع المزرعة، ويكون الخيار للمشتري شهراً، أو شهرين، أو ثلاثة، ففي هذه الحالة خاصة إذا كانت المدة طويلة كالشهر والشهرين، بل حتى الأسابيع، يكون المبيع -سواء كان من العقارات أو المنقولات- محبوساً على الصفقة، فلا يتصرف لا البائع ولا المشتري، لا يتصرف البائع لأنه قد أخرج المبيع عن ذمته بعقد البيع، ولا يتصرف المشتري في المبيع لأن هذا العقد معلق، فحينئذٍ اتفق الطرفان على شرط بينهما، والمسلمون على شروطهم، فينبغي أن يفي كل منهما للآخر، فلو أنه قال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال له المشتري: قبلت، على أن لي الخيار ثلاثة أيام، فإن الصفقة التي هي السيارة لا يجوز للبائع أن يبيعها لطرف ثانٍ؛ لأن الطرف الأول قد رضي بالصفقة، ولا يجوز للمشتري أن يتصرف ببيع هذه السيارة أو هبتها أو أي من التصرفات حتى تتم مدة الخيار، ويمضي الشرط على صورته، فإذا مضت مدة الخيار وتم الشرط بينهما على ما اتفقا عليه، فكل منهما وشأنه فإن كان تمت الصفقة فالمبيع ملك للمشتري، وإن لم تتم الصفقة فالمبيع ملك للبائع، أما أن يتصرف أحدهما مثلاً: لو أنه باعه عمارة، فقال له: بعتك هذه العمارة بمائة ألف أو بمليون، قال: قبلت، قال: ولي الخيار شهراً، فربما جاء قبل نهاية الشهر وقال: لا أريد، وربما جاء الشهر، ومضى وتم، والمشتري يريد الصفقة، فحينئذٍ لو جاء البائع يبيع، ربما باع والمشتري يرغب الصفقة، وكذلك لو جاء المشتري يبيع ويتصرف ربما تصرف والبائع لا يريد إمضاء الصفقة، فتصرف أحد الطرفين في المبيع ببيعٍ أو هبةٍ أو عتقٍ كما يقع في العبيد، أو ذبح الشاة أو نحر الناقة كل هذا مخالف للشرط الذي بين المتعاقدين، والله أمرنا بالوفاء بالشروط، وأمرنا أن يفي المسلم لأخيه المسلم، فليس من الذمة والعهد بين المسلمين أن يخفر المسلم أخاه، فيقول له: بعتك هذه السيارة على أن لي الخيار يوماً أو أسبوعاً، فيتصرف بالصفقة قبل تمام هذا الشرط الذي بينهما، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم، وهو يتعاقد مع المشركين بالشرط:(بل نفي لهم، ونستعين الله عليهم) فإذا كان هذا بين المسلم والكافر، فكيف بين المسلم والمسلم، فحينئذٍ ينبغي لكلا الطرفين أن يعظم الشروط، وعليهم أن يتقوا الله عز وجل، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه:(مقاطع الحقوق عند الشروط)، فنحن لم نبع المبيع بيعاً، فلم نبع البيت ولا السيارة، ولا الأرض ولا المزرعة إلا معلقة على شرط، فينبغي أن يفي البائع للمشتري بإعطائه المهلة والنظرة ويفي المشتري للبائع بإعطائه المهلة والمدة، فكل منهم عليه الوفاء، والله تعالى قال في كتابه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:١] وهذه الآية الكريمة أصل عند أهل العلم، فقوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يلزم المسلم أن يفي لأخيه المسلم بما تضمنه العقد، فالعقد الذي بين البائع والمشتري إنما هو عقد معلق بشرط معين، ولا بد من وفاء كل منهم به للآخر، وعلى هذا: لا يجوز أن يتصرف البائع ببيع المبيع أو هبته، أو عتقه ولا يجوز للمشتري أيضاً أن يقول: أنا اشتريت وأعطيت المال، إذاً أبيع وأهب، وأعتق، نقول: لا، لا يجوز لك لأنك أنعمت بيعاً معلقاً، فوجب عليك أن تنتظر هل يئول هذا البيع إلى البت فتتصرف، أو يئول إلى القطع وعدم الإمضاء فترد الحقوق إلى أهلها؛ لأنه من الشرط، والعقد بينكما معلق على هذا الخيار، فيجب على كل واحد منكما أن يفي للآخر على هذا الوجه.
[وعوضه المعين فيها]: وهذه الجملة صدَّرها المصنف رحمه الله بقوله: [ويحرم ولا يصح].
أما (يحرم) فإن من يقدم على التصرف في المبيعات في مدة الخيار، بائعاً كان أو مشترياً فإنه معتد لحدود الله عز وجل؛ لأنه ظلم أخاه المسلم، فمثلاً: إذا كان البائع والمشتري في مجلس واحد، فقال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقبل وأعطاه العشرة آلاف، وتم العقد بينهما، فالله قد جعل لكل منهما أن ينظر ما داما جالسين، فلو قال المشتري: يا فلان -يخاطب غيره- اشترِ مني هذه السيارة بأحد عشر ألفاً، فلا يجوز؛ لأنه لم يفترق عن أخيه حتى يتم البيع الأول.
فالمعنى أنه يحرم ولا يصح في مدة الخيار تصرف أحد المتعاقدين بائعاً كان أو مشترياً؛ لأنه يخالف شرع الله عز وجل، فنص المصنف أولاً على الحرمة؛ لأنه ليس من شيمة المسلم أن يكذب على أخيه المسلم وليس من شيمته أن يغشه، ويختله أو يخدعه في بيعه فيقول له: بعتك، ويقول الآخر: اشتريت على أن لي الشرط ويتم البيع بينهما بشرط، فيتصرف قبل تمام الشرط بل على كل منهما أن يتم للآخر شرطه.
وجمع المصنف بين (يحرم ولا يصح)؛ لأنه في بعض الأحيان قد يحرم الشيء ويصح البيع، مثلاً: البيع بعد آذان الجمعة الثاني حرام ولكنه صحيح عند جمهور العلماء؛ لأن الأركان تامة والشروط تامة، وجاء النهي من جهة الوقت والزمان، فهو ليس براجع إلى ذات البيع وإلى ما هو متعلق بعين المبيع ثمناً كان أو مثمناً، فأوجب الصحة.
وعلى هذا يقولون: يأثم والبيع صحيح، فيأثم لأنه باع في وقت لا يأذن الشرع بالبيع فيه، والبيع صحيح لأنه تام الشروط تام الأركان.
فعلى قوله:(يحرم ولا يصح) فإنه إذا تصرف فباع العمارة قبل تمام الشرط فسخ البيع الثاني، ولو تصرف بالعمارة فوهبها لغيره، فسخت هبته ولم تصح، والحكم للبيع الأول، فإما أن يمضي، وإما أن يلغي على حسب ما اتفق عليه المتعاقدان.