[الأداب وأنواعها]
وقوله رحمه الله: (وهو التأديب).
الأدب: رعاية الحرمة، فمن راعى حرمة الأشياء في قوله وعمله وفعله وسمته ودله فهو المؤدب، ويكون الأدب أدب المخلوق مع المخلوق، وأدب المخلوق مع الخالق، وأدب الخالق مع المخلوق، فهذه ثلاث أحوال ذكرها العلماء للأدب.
فالله عز وجل يعلمنا الأدب -مع أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام- في خطابه للرسل فيقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:٤١]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:٦٤]، ولم يقل: (يا محمد) بالاسم المجرد؛ تشريفاً له وتكريماً، فناداه بالرسالة، وناداه بالنبوة؛ تشريفاً له وتكريماً، حتى يعلم الأمة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان العلماء والأئمة لا يقولون: هذا قول محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يقولون: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ رعايةً للأدب، وهذا هو خطاب الله عز وجل لعبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
ومن ذلك قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:٤٣]، وهذا من أجمل ما يكون من الخطاب، أن الله قدّم العفو على التعنيف على الفعل، فقال له: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:٤٣]، فلم يقل له: لِمَ أذنت لهم؟! عفا الله عنك، ولكن قال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:٤٣]، وهذا تعليم للأمة أن يراعوا حقوق من له حق، وحرمة من له حرمة.
قالوا: ومن أدب الخالق مع المخلوق أيضاً قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:١] * {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:٢]، فإن الله لم يقل له: عبست، وإنما قال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}، حتى إن من قرأ السورة لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي نزلت فيه هذه السورة.
وقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:١ - ٢]، لا يعلم من الذي عبس، وهذا من أكمل ما يكون حينما يُحكى الأمر للشخص دون أن يباشر بالخطاب، فهذا من الأدب، وكذلك تأتي إلى الشخص وتقول له: من الناس من يقول فيّ كذا وكذا، والمخاطب هو الذي قال هذا الكلام، ففرقٌ بين أن تقول: من الناس من يقول فيّ كذا وكذا، وبين أن تقول له: أنت تقول فيّ كذا وكذا.
وأما أدب المخلوق مع الخالق فهو، وهو حال الأنبياء خاصة، بل وعباد الله وأوليائه الصلحاء الأتقياء السعداء، وهؤلاء هم الذين يراعون الأدب مع الله.
ومن ذلك قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:٨٠]، ولم يقل: وإذا أمرضني فهو يشفيني، ولا شك أن الله هو الذي يمرضه، ولكنه تأدب: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:٧٨ - ٨٠]، فنسب المرض إلى نفسه تأدباً مع الله سبحانه وتعالى.
وهناك أدب المخلوق مع المخلوق: وأحوال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم تدل على ذلك، ومن أراد أن ينظر إلى الأدب في أبهى صوره وأجمل حلله فليقرأ قصص الأنبياء، وليقرأ التفاسير الدقيقة التي تبرز الجوانب الجميلة الجليلة لرسل الله صلوات الله وسلامه عليه، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، فهذه الصفوة التي اصطفاها الله من خلقه والخيرة التي اختارها الله من خليقته، هم الذين كانوا يراعون الأدب على أتم أحواله، فمن أدب المخلوق مع المخلوق قول يوسف عليه السلام: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف:٢٦]، فجاء بضمير الغائب، ولم يقل للمرأة: أنت راودتيني عن نفسي، بل قال: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}، وهذا من أدب المخلوق مع المخلوق.
فالأدب: هو رعاية الحرمة، والتأديب: حمل الإنسان على أن يراعي هذه الحرمة، وهو تفعيلٌ من الأدب بمعنى: أن الإنسان يحمل على رعاية هذه الحرمة في أقواله وفي أفعاله وفي تصرفاته وشئونه.
ولا شك أن الحدود كلها فيها معنى التأديب، ولكن هذا النوع من العقوبات يقصد منه أن يحمل الشخص على رعاية الحرمات؛ لأنه لا يقع التعزير إلا عند الإخلال بالحرمات، سواء كانت عامة أو كانت خاصة، فيكون التعزير في الإخلال بالحرمات العامة وبالحرمات الخاصة، فسواءٌ كان في درء المفاسد أو جلب المصالح.
وقوله رحمه الله: (وهو التأديب) تعريف مختصر راعى فيه رحمه الله الاختصار، والمقصود من التعزير أن يحصل التأديب، وإلا فالأصل أن التعزير عقوبة غير مقدرة شرعاً، تثبت أو تجب لحق الله عز وجل، مثل أن يمتنع من الزكاة فيعزر ويؤخذ منه ضعف الزكاة، أو نصف ماله، ويعزر بحق المخلوق مثلما ذكرنا.