للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أقسام اللقطة]

ومن أجمع الأحاديث التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام اللقطة: حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه وأرضاه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والفضة، فقال عليه الصلاة والسلام: (اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإذا أتاك صاحبها فأعطها إليه، وإلا فشأنك بها، فإن جاء ربها يطلبها يوماً من الدهر، فأعطها له.

ثم سأله عن ضالة الإبل، فقال عليه الصلاة والسلام: مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربها.

ثم سأله عن ضالة الغنم، فقال عليه الصلاة والسلام: إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) متفق عليه، هذا الحديث الشريف اشتمل على جملة من الأحكام، فبين مشروعية التقاط اللقطة، ما لم تكن من ضالة الإبل، حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز أخذ ضالة الإبل، فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)، فحرم أخذها، وحمل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤوي الضالة إلا ضال)، وقد عمل بذلك جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، فإنه كان في سفر، وكان معه بهمه وبقره، فجاءت بقرة ودخلت بين البقر، فطردها رضي الله عنه، وأمر بطردها، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤوي الضالة إلا ضال).

ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين النوعين، وبين أن هناك شيئاً يجوز التقاطه، وشيئاً لا يجوز التقاطه.

فالشيء الذي يجوز التقاطه هو الذهب وسائر الأموال، ولما سئل عنها صلى الله عليه وسلم قال: (اعرف وكاءها وعفاصها)، (والوكاء): هو الخيط الذي يشد به القرطاس، ويشد به كيس المال، (والعفاص): هو الوعاء، وقيل: الشيء الذي يوضع على فم القارورة أو الزجاجة، فالعفاص: المراد به الوعاء الذي تحفظ فيه اللقطة، وفي زماننا الحقائب والصناديق، والمعنى: اعرف الشيء الذي كانت اللقطة موجودة فيه، أي: نوع الحقيبة ولون الحقيبة، وكذلك أيضاً اعرف وكاءها، وفي زماننا تعرف هل لها قفل أو ليس لها قفل؟ فكل الأوصاف التي يمكن عن طريقها أن يستدل بها على اللقطة يضبطها الواجد والملتقط ويحفظ ذلك، وإذا خاف النسيان كتبه.

ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن يعرفها سنة، وسنبين كيفية التعريف، وحكم التعريف.

وقد اشتمل الحديث على أنه بعد مضي سنة كاملة إذا لم يأتِ صاحبها فإنه يملكها -أي: يملك اللقطة حكماً- واجدها، ولذلك قال: (فهي وديعة عندك)، فاعتبرها كالوديعة، بمعنى: أنه يملكها حكماً، لكن ليست بالوديعة الاصطلاحية التي تقدمت معنا أحكامها، إنما أراد أن صاحبها كأنه وضعها عندك وديعة، أي: إذ أذن لك الشرع بأخذها والتصرف فيها، فإنما هو حكماً لا حقيقة، بحيث لو جاء صاحبها فلا تقل له: ولقد عرفتها سنة ولم تأتِ، فأنا أملكها، إنما أراد أن يبين أنه بعد مضي سنة في حالة عدم إتيان صاحبها، فإن من حقك أن تتصرف فيها، وتكون كالمالك لها لكن حكماً، بحيث لو جاء صاحبها لم ترتفع يده الحقيقية عن ذلك المال، قال: (فإن جاء صاحبها يطلبها يوماً من الدهر)، وهذا فيه دليل على أنه سواء طالت المدة أم قصرت، فيده لا زالت باقية على المال، وطول المدة -كما يسمى في عرفنا بالتقادم- لا يسقط الحقوق، وهذا يرد على ما تسير عليه بعض القوانين الوضعية من إسقاط الحقوق بالتقادم، سواء كان في عقود المنافع أو عقود المعاوضات الأخرى، فتجد -مثلاً- من يغسل الثياب يقول: إذا لم تأتِ خلال ستة أشهر فلا تسأل عن مالك، وهذا ليس له من أصل، ولا يعتبر شرعاً موجباً للحكم، فصاحب المال أحق بماله متى وجده ولو بعد دهر من الزمان، فالعبرة في رجوع الحق إلى صاحبه، بغض النظر عن المدة طالت أو قصرت.

فبين عليه الصلاة والسلام أنه مع كون الملتقط يتعب في السؤال عن صاحبه، ويتحمل مشقة التعريف، وعناءه، وعبء الحفظ للمال، ويطول الزمان، ويتصرف في المال، ويأخذه حكماً، ومع ذلك لا يسقط ذلك حق صاحبه؛ لأن المال لصاحبه، فأموال المسلمين محرمة إلا إذا أذن بها صاحبها، أو أخذت باستحقاق أذن به الشرع.

ثم بين عليه الصلاة والسلام النوع الثاني من اللقطة وهو: ضالة الإبل، وسأله زيد رضي الله عنه عن ضالة الإبل فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها)، أي: لا خوف عليها، فالإبل لا يضرها شيء، ولو مضت المدة طويلة؛ لأنها تصبر على الماء وترد على الشجر وتأكل، ويستطيع صاحبها بالتحري والسؤال أن يجدها، ثم إن الإبل من المعروف أنها تحن إلى مكانها ومرعاها، وربما باع الرجل إبله في مكان بعيد جداً قد يبلغ مئات الكيلو مترات، ثم يفاجأ يوماً من الأيام وقد رجعت إليه الإبل، وهذا معروف، ومن ذلك القصة المعروفة للجرمي، لما أجلت خزاعة جرهماً عن البيت، أي: أبعدتهم عن مكة، وابتعدوا أكثر من ثلاثمائة كيلو متراً، ثم حنت إبلهم، ونزحت إلى مكة، ودخلت حتى نحرت في مكة، وهي التي صارت فيها القضية المعروفة، وفيها الأبيات المشهورة: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر فأسباب هذه الأبيات: أن الإبل حنت إلى مرعاها بمكة، وقد كانوا على بعد أكثر من ثلاثمائة كيلو متراً، وهذا يكون حتى بين العشية والضحى، فالإبل ربما تجلس ثلاثة أيام وأربعة أيام في مكانها الجديد، ثم تحن إلى مرعاها القديم.

إذاً: ضالة الإبل لها حكم خاص، وقد خصتها الشريعة بهذا الحكم، وهو أنه لا يتعرض لها الإنسان، فهي تدفع عن نفسها، فلو هجم عليها صغار (السباع) فهي تدفع عن نفسها، ولذلك لا يتعرض لها أبداً.

وأما النوع الثالث الذي اشتمل عليه الحديث فهو: ضالة الغنم، ولما سئل عنها عليه الصلاة والسلام خفف في حكمها وقال: (إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب)، فبين عليه الصلاة والسلام أن هذا النوع من الضوال -وهو الغنم- لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا يستطيع أن يبقى في المكان الذي هو فيه، فإذا تُرِك أكله الذئب، فلا يستطيع أن يدفع عن نفسه، أو يأتي صاحبها فيجدها، ولكننا إذا لم نجد صاحبها، ودلنا على هذا أنه لو كان موجوداً لما أصبحت في العراء، فالاحتمال الثالث أن تأخذها.

وانظر إلى حكمة الشريعة كيف اشتمل هذا الحديث على الثلاثة أنواع: النوع الأول: الضعيف الذي لا يمكن أن يجد صاحبه، ولا يمكنه أن يدفع عن نفسه، وبقاؤه ضياع وتلف، وهو الغنم، فتملك بالأخذ، ثم النوع الثاني: وهو الذي تتبعه همة صاحبه، ويحصل عنه السؤال والبحث والتحري، وهي لقطة الذهب والفضة، والنوع الثالث: والذي هو أعلى، فيمكنه أن يدفع عن نفسه، ويمكنه أن يبقى في مكانه مدة طويلة، وهو ضالة الإبل، فأعطت الشريعة الإسلامية لكل نوع حكمه، وهذا يدل على كمال الشرع، وأنه تنزيل من حكيم حميد سبحانه وتعالى، الذي قص الحق وهو خير الفاصلين، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:١١٥].

فالشيء الذي يجوز التقاطه هو الذهب وسائر الأموال، ولما سئل عنها صلى الله عليه وسلم، قال: (اعرف وكاءها وعفاصها)، (والوكاء): هو الخيط الذي يشد به القرطاس، ويشد به كيس المال، (والعفاص): هو الوعاء، وقيل: الشيء الذي يوضع على فم القارورة أو الزجاجة، (فالعفاص): المراد به الوعاء الذي تحفظ به اللقطة، وفي زماننا الحقائب والصناديق، يعني: اعرف الشيء الذي كانت اللقطة موجودة فيه، يعني: نوع الحقيبة ولون الحقيبة، كذلك أيضاً، اعرف وكاءها، وفي زماننا تعرف هل لها قفل أو ليس لها قفل.

فكل الأوصاف التي يمكن عن طريقها أن يستدل على اللقطة يضبطها الواجد والملتقط ويحفظ ذلك، وإذا خاف النسيان كتبه، ثم بين عليه الصلاة والسلام أنه يعرفها سنة، فأمر عليه الصلاة والسلام أن يعرفها سنة وسنبين كيفية التعريف، وحكم التعريف، واشتمل الحديث على أنه بعد مضي سنة كاملة إذا لم يأتِ صاحبها فإنه يملكها أي: يملك اللقطة حكماً واجدها، ولذلك قال: فهي وديعة عندك، فاعتبرها كالوديعة، بمعنى: أنه يملكها حكماً، لكن ليست بالوديعة الاصطلاحية التي تقدمت معنا أحكامها، إنما أراد أن صاحبها كأنه وضعها عندك وديعة، أي: إذ أذن لك الشرع بأخذها والتصرف فيها، فإنما هو حكماً لا حقيقة، بحيث لو جاء صاحبها لا تقول له: والله عرفتها سنة ولم تأتِ فأنا أملكها، إنما أراد أن يبين أنه بعد مضي سنة في حالة عدم إتيان صاحبها فإن من حقك أن تتصرف فيها، وتكون كالمالك لها لكن حكماً، بحيث لو جاء صاحبها لم ترتفع يده الحقيقية عن ذلك المال، (فإن جاء صاحبها يطلبها يوماً من الدهر) هذا فهي دليل على أنه سواء طالت المدة أم قصرت، فيده لا زالت باقية على المال، وطول المدة -كما يسمى في عرفنا بالتقادم- لا يسقط الحقوق، وهذا يرد على ما تسير عليه بعض القوانين الوضعية من إسقاط الحقوق بالتقادم، سواء كان في عقود المنافع أو عقود المعاوضات الأخرى، فتجد مثلاً من يغسل الثياب يقول: إذا لم تأتِ خلال ستة أشهر فلا تسأل عن مالك، وهذا ليس له من أصل، ولا يعتبر شرعاً موجباً للحكم، فصاحب المال أحق بماله متى وجده ولو بعد دهر من الزمان، فالعبرة في رجوع الحق إلى صاحبه، بغض النظر عن المدة طالت أو قصرت، فبين عليه الصلاة والسلام أنه مع كون الملتقط يتعب في السؤال عن صاحبه، ويتحمل مشقة التعريف، وعناءه وعبء الحفظ للمال، ويطول الزمان، ويتصرف في المال، ويأخذه حكماً، ومع ذلك لا يسقط ذلك حق صاحبه، فالمال لصاحبه، فأموال المسلمين محرمة إلا إذا أذن بها صاحبها، أو أخذت باستحقاق أذن به الشرع.

ثم بين عليه الصلاة والسلام النوع الثاني من اللقطة وهي ضالة الإبل، وسأله زيد رضي الله عنه عن ضالة الإبل، فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها)، أي: لا خوف عليها، فالإبل لا يضرها شيء، ولو مضت المدة طويلة، لأنها تصبر على الماء وترد على الشجر وتأكل، ويستطيع صاحبها بالتحري والسؤال أن يجدها، ثم إن الإبل من المعروف أنها تحن إل

<<  <  ج:
ص:  >  >>