[حكم الجمع بين البيع والكتابة وبين البيع والصرف في عقد واحد]
قال رحمه الله: [وإن جمع بين بيعٍ وكتابةٍ، أو بيع وصرف، صح في غير الكتابة، ويُقسَّط العوض عليهما].
قوله: (وإن جمع بين بيع وكتابة).
هذا أيضاً من البيوع المنهي عنها، وهو الصفقتان في صفقة واحدة، وهي في حكم البيعتين في بيعة واحدة؛ والسبب في هذا: أن الصفقات إذا دمجت مع بعضها كأن بعضها قام على بعض، فإذا حصل العيب في البعض يرد الإشكال والخصومة بين الناس، فالعقود التي تقوم على التداخل مثل أن يقول: أؤجرك السيارة سنة وتشتريها بعد سنة، أو خذ السيارة هذه ثلاث سنوات تدفع أجرتها ثم أبيعكها بكذا، فهذا التداخل يوجب الفتنة ويوجب الشحناء إذا تغيرت المبيعات أو حصل عيب في أحد العقدين أو خلل في أحد العقدين، فيسري الفساد إلى العقد الآخر، وهذا يدل على دقة منهج الشريعة، كأننا حينما نقرر الشروط والصفات التي ينبغي على المتعاقدين أن يتنبها لها في العقد فنحن بهذا نمهد للقاضي فصله بين الخصومات، ولذلك لو أُذن بالبيوعات مطلقاً لكثرت الخصومات عند القاضي، لكن حينما يقال للناس: اجتنبوا كذا وافعلوا كذا، فهذا ييسر للقاضي مهمته وييسر للمفتي فتواه، ولذلك تكون عقود البيع واضحة والحقوق واضحة وتفصل الحقوق على وجه بيِّن، لكن لو أدخلت ثلاثة عقود في عقد واحد كيف يفصل القاضي بين المتخاصمين؟ وكيف ينصف الخصم من خصمه؟ فهذا العقد مركب على هذا العقد، فإن جئت تفسد هذا العقد لأنه فاسد فالفساد في الأول وليس في الثاني أو في الثاني وليس في الأول.
فهذا نوع من الدقة في المنهج، وينبني عليه حفظ وصيانة العقود الشرعية مما يفضي إلى الخصومات والنزاعات، فلا يجوز أن يجمع بين البيع والكتابة، كأن يقول لعبده: كاتبتك سنة باثني عشر ألف ريال وبعت عليك بيتي بخمسمائة ألف، فجمع بين البيع والكتابة، والمكاتب ملك لسيده حتى يعتق بالكتابة، فحينئذٍ كأنه يبيع لنفسه ويبيع لغيره، وهذا من تداخل العقود -كما ذكرنا-، وتداخل العقود قاعدته في المنع الغرر، ولذلك يعتبر من البيوع المحرمة التي نهُي عنها من باب الغرر، ولكونها تفضي إلى الخصومات والنزاعات، ومن هنا: لا يجوز الجمع بين البيع والكتابة؛ لأن البيع والكتابة بيعتان في بيعة، باعه نفسه واشتراها وباعه بيعة ثانية، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.
قوله: [أو بيعٍ وصرفٍ].
يجوز الجمع بين البيع والصرف، والبيع والصرف موجود إلى زماننا هذا، تأتي مثلاً إلى صاحب البقالة وتشتري من عنده بعشرة ريالات فتعطيه خمسين ريالاً، فإذا أعطيته الخمسين فمعنى ذلك أن هناك بيعاً: وهي العشرة في مقابل الطعام الذي اشتريته، والأربعون الباقية سيعطيك بدلاً عنها الصرف، وهي الأربعون المتبقية من رأس المال الذي هو الخمسون، فحينئذٍ جمعت بين البيع والصرف، والجمع بين البيع والصرف مرخص فيه بشرط: ألا تفارقه حتى تقبض؛ لأنك إذا صرفت الذهب بالذهب والفضة بالفضة فلابد أن يكون يداً بيد، فلو أنك اشتريت بعشرة وبقيت أربعون من الخمسين فقال لك: اترك الباقي عندي، أو قلت له: سآتيك بعد ساعة أو بعد نصف ساعة، أو أخذ الخمسين منك وذهب للصرف دون أن يستأذنك وقع ربا النسيئة، فينبغي أن يتنبه لهذا.
وسيأتينا في باب الربا ما يسمى بربا النسيئة وربا الفضل، وهناك أصناف تسمى الأصناف الربوية وهي: الذهب والفضة والبر والتمر والشعير والملح، وهي الستة المنصوص عليها، وهناك أصناف مقيسة عليها، فهذه الأصناف الربوية يجري فيها ربا الفضل وربا النسيئة، فربا النسيئة يقول لك الشرع: إذا أعطيت هذا في مقابل هذا تعطي بيد وتأخذ بالأخرى، فإن أعطيته وأخّر في الإعطاء وافترقتما ولم يعطك وقع ربا النسيئة وهو التأخير، فهناك أشياء حرم عليك الشرع أن تؤخر قبضها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر حينما قال له: (إنه يبيع الإبل بالدراهم ويقتضي بالدنانير، قال: لا يحلّ لك أن تفارقه وبينكما شيء)؛ لأنه صَرَفَ الدنانير بالدراهم، وعلى هذا إذا صرفت الفضة بالفضة أو الذهب بالذهب أو الفضة بالذهب ينبغي أن يكون يداً بيد، فلو أعطيته خمسين ريالاً فإن أصلها فضة، فينبغي أن تُعطي وتأخذ في نفس مجلس العقد، فلو قال لك: ليس عندي صرف، فلو تأتيني بعد يوم، أو بعد ساعة، أو في أي وقت تأتيني أعطيك الباقي، فهذا يعتبر من الربا المحرم من جهة النسيئة وهو أشد نوعي الربا، وعلى هذا فلو أنه صرف المائة أو الخمسين ينبغي أن يعطيه بيد ويأخذ بأخرى، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباً إلا هاء وهاء)، فاشترط عليه الصلاة والسلام أن يقبض بيد وأن يعطي بالأخرى، ويستثنى من هذا إذا قلت له: اذهب واصرف، أي: لو أن إنساناً جاء إلى محطة (البنزين) وعبأ بعشرة ريالات وأعطاه خمسين ريالاً وبقيت أربعون فقال لك: لا يوجد لدي صرف، تقول له: اذهب واصرف، فإذا قلت له: اذهب واصرف فقد وكلته بالصرف، فيذهب ويصرف ثم يعطيك ما تبقى لك، وهذا يعتبر وكالة منفصلة عن البيع الذي بينكما؛ لأنه لم يصرف من نفسه، وأما لو بقيت لك أربعون فقال لك: أعطيك الآن عشرين وأعطيك الباقي فيما بعد، تقول: لا، إمّا أن تعطيني الصرف كاملاً، أو يكون المبلغ الذي اشتريت به ديناً عليّ تسجله وأعطيك إياه في وقت ثانٍ.
وكان بعض العلماء يقول: إن الرجل قد يشيب عارضاه في الإسلام وهو يتبايع بالربا صباحَ مساءَ وهو لا يدري، وكثير من الناس يقع في هذه الأشياء وهو لا يدري، فينبغي التنبيه على مسألة ربا النسيئة فيجب أن يشترط في الذهب بالذهب والفضة بالفضة أن يكون الصرف يداً بيد، فإذا اشتريت سلعة وبقي الباقي صار عقد بيع وصرف، بيع لقيمة السلعة التي تشتريها، وصرف بالنسبة للباقي، فينبغي أن يعطيك الباقي كاملاً.
أما لماذا يشدّد الشرع في مسألة الصرف؟ فهذا سنتكلم عليه إن شاء الله في باب الربا، لكن من حكمة الله عز وجل أنك إذا جئت تصرف لابد أن يعطيك يداً بيد من أجل الحقوق، ولذلك يظهر لنا في مثل هذا سماحة الشريعة حينما تحفظ للناس حقوقهم من حيث لا يشعرون، فإذا جئت إلى بقالة أو جئت -مثلاً- إلى محل تريد أن تشتري من عنده بعشرة ودفعت له مائة ربما أخذ المائة منك ورماها في الصندوق فإذا قلت له: (أعطني الباقي)، قال: (أي باقي)، فينكر ويقول: لم آخذ منك شيئاً، وربما قال: هذه أربعون، تقول له: أعطيتك مائة والباقي تسعون، يقول: لا، أنت أعطيتني خمسين؛ لكن إذا كنت تعطي بيد وتأخذ بيد فحقك مضمون، والشريعة لا تريد أن يختل أحد أحداً أو يضر بأحد؛ لأنه ليس من العدل أن تدفع المائة ثم يظلمك ويقول: (ما أعطيتني) فهو بشر، وقد لا يقصد ذلك، وإذا رمى بخمسمائة ريال في الصندوق فكيف تثبت أنه أخذ منك خمسمائة، فالناس كلهم مشغولون عند الزحام، وهذا يقع، فالشريعة تحتاط للناس في حقوقهم، فإذا دفعت الخمسمائة وبقي لك الباقي تأخذ بيد وتعطي بأخرى، لماذا؟ لأنك تضمن حقك فلا تظلم ولا تُظلم، فإن أخذ منك ورماها ثم بعد ذلك قال: كم أعطيتني؟ حينئذٍ يقع الضرر فتذهب حقوق الناس ويختلون في حقوقهم المالية، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في حديث عمر في الصحيح: (الذهب بالذهب رباً -أي حرام- إلا هاء وهاء) (هاء وهاء) مثل قولك: (هه)، لما تعطي فيقول هو: (هه)، هذا هو معنى قوله: (هاء وهاء) أي: تعطي بيد وتأخذ باليد الأخرى، وعلى هذا فيجوز الجمع بين البيع والصرف إذا كان يداً بيد بالشرط المعتبر في الأصناف الربوية.
قال: [صحّ في غير الكتابة].
وهو البيع والصرف، ولكن الكتابة لا يصحُّ الجمع بينها وبين البيع كما ذكرنا.
قال: [ويُقسَّط العوض عليهما].
إذا حصل الفساد وقلنا: لا يصحُّ الجمع بين الكتابة والبيع يقسط العوض عليهما على حسب قيمة الكتابة من السلعة المبيعة، لو قال له: أبيعك داري وأكاتبك باثني عشر ألفاً، فدمجهما في صفقة واحدة صحّ في الكتابة بقسطها وبحقها، وهذا من باب التفريق بين الصفقتين كما ذكرنا في المجلس الماضي.