[عدم جواز خروج المعتكف من المسجد إلا لضرورة]
قال رحمه الله: [ولا يخرج المعتكف إلا لما لابد له منه].
المعتكف حبس نفسه لطاعة الله، وفر من الدنيا وشواغلها إلى مرضات الله ومحبته، فالمنبغي عليه أن يحقق هذه العبادة، وأن يقوم بها على الوجه الذي يرضي الله عز وجل؛ حتى يكون أسعد الناس بالقبول منه سبحانه وتعالى، فإنها نعمة من الله إذا وفق عبده لاغتنام هذا الاعتكاف بذكره وشكره وحسن عبادته، ثم تقبل منه، ولا يتقبل الله إلا من المتقين، الذين حفظوا حقوق العبادات، وقاموا بها على أتمّ وجوهها على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.
إذاً فالمعتكف في اعتكافه لا يجوز له أن يخرج من المسجد إلا لضرورة وحاجة، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم؛ لأن حقيقة هذا اللفظ الشرعي -أي: الاعتكاف- المتضمن للعبادة الشرعية يدل على اللزوم وعلى المكث، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يخرج من المسجد إلا لحاجة وضرورة، كما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (كان لا يخرج إلا لحاجته).
والمراد بالحاجة: البول والغائط، فإذا احتاج إلى بول وغائط فإنه يجوز له أن يخرج؛ والسبب في ذلك: أن المساجد لا يجوز قضاء الحاجة فيها، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بال الأعرابي في المسجد وأنكر الصحابة عليه ذلك أقرهم، ولكن أنكر عليهم أنهم يريدون قطعه عن البول، أما كون البول في المسجد لا يجوز فهذا محل إجماع، والله تعالى نبه إلى ذلك بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:٣٦] فلا يجوز للمعتكف أن يقضي حاجته داخل المسجد، فإذا كان لا يجوز له ذلك فمعنى ذلك أنه لابد له من الخروج، فيصير الخروج مسموحاً وجائزاً.
فلو قلنا: إنه يحرم على المعتكف أن يخرج لقضاء حاجته، لما استطاع إنسان أن يعتكف؛ لأنه ما من إنسان إلا وهو مضطر لقضاء حاجته، ولا يمكنه أن يحبس هذه الحاجة؛ لأن ذلك ربما أهلكه وأتلف نفسه، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يجوز له أن يخرج لقضاء الحاجة من بول وغائط.
وفي حكم ذلك ما يضطر إليه من الأكل والشرب، فإذا لم يجد أحداً يقوم بإحضار الطعام والشراب إليه -إذ لابد له من الأكل ولابد له من الشرب- جاز له أن يخرج.
فإن قلنا: إن السُّنة قد دلت على جواز الخروج للحاجة، وأنه يجوز له أن يقضي حاجته، فإن الأصل يقتضي أن ما أبيح للحاجة والضرورة يقدر بقدرها، ومن هنا فصّل العلماء فقالوا: إذا اضطر للخروج لقضاء البول أو الغائط فلا تخلو أماكن قضاء البول والغائط من حالتين: إما أن تكون قريبة، وإما أن تكون بعيدة: فإن كانت قريبة فإنه يقضي حاجته فيها بلا إشكال؛ لأن قربها من المسجد ينفي الإشكال في جواز قضاء الحاجة فيه، كأن تكون لا تبعد عن المسجد إلا يسيراً، أما إذا كانت بعيدة فإنه يختار أقربها، ولا يجوز له أن ينصرف إلى المكان الأبعد مع وجود الأقرب.
فلو اختار منزله أو شقته أو عمارته، وهو أبعد عن المسجد من دورة مياه قريبة لم يجز له ذلك؛ والسبب في هذا: أنه إذا خرج لقضاء حاجته فقد استغل الوقت الذي يجب صرفه في الاعتكاف لقضاء الحاجة، وما أبيح للحاجة يقدر بقدرها، فكأنه يترفه ويزداد في الوقت المسموح له، فلما سُمِحَ له أن يقضي حاجته في الأقرب، لم يجز له أن يقضي حاجته في الأبعد.
(أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) هي أصل عام عند العلماء، ولذلك قالوا: إذا أراد الشخص أن يطعن في أحد الشهود، وعلم فيه أكثر من جَرْح ترد شهادته، ويكون بعضها أشد من بعض، فإنه يختار أقل جرح ترد به شهادته؛ لأن كشف العورات غير مأذون به إلا بقدر الحاجة.
وكذلك من أكل من الميتة بسبب المخمصة والمجاعة قالوا: إنه يأكل ويسد رمقه، ولا يجوز له أن يتزود؛ لأن الزاد زائد عن حاجته، والأصل أنه محرَّم، فأبيح له قدر الحاجة.
فالأصل أنه لا يجوز للمسلم أن يخرج من المسجد ما دام معتكفاً، وأبيح له أن يخرج لقضاء حاجته، وعليه فلا يجوز للمعتكف أن يقضي حاجته في مكان بعيد؛ لأن الشرع إنما أجاز له الأقرب.
إذاً لا يجوز الانصراف إلى دورات المياه البعيدة مع وجود القريبة إلا في حالات: الحالة الأولى: أن تكون شديدة الزحام، ويكون الإنسان شديد الحصر، أو يتضرر بالانتظار في الزحام لضيق نفس، أو يتضرر من وجود بعض الروائح الكريهة أو نحو ذلك، فيجوز له حينئذ أن يختار شقته أو يختار عمارته إذا لم يكن بعدها متفاحشاً.
كذلك الحكم إذا كان محتاجاً للطعام والشراب، فلو كان يتيسر له أن يطعم في مطعم وهو قريب من المسجد فحينئذ ننظر: إن كان جلوسه في المطعم ينقص من قدره كالعالم وطالب العلم ومن هو قدوة، فتسقط مروءته بوجوده في هذا المكان، فإنه يجوز له أن ينصرف إلى شقته وبيته؛ لأنه يتضرر بالجلوس في هذا المكان، فوجود هذا المكان وعدمه على حد سواء.
وأما إذا كان يمكنه أن يأكل فيه ولا يستضر بذلك، والمكان محفوظ ولا يجد غضاضة فيه، فإنه لا يجوز له أن ينصرف إلى مكان أبعد مع وجود الأقرب.
فالقاعدة: أن هذا الشخص جاز له أن يفارق المسجد لضرورة، وإذا جاز له لضرورة لا يجوز له أن يتمادى أكثر منها.
ومن هنا فرَّع العلماء أنه إذا خرج من أجل أن يستحم أو يغير ثيابه، ولم يستضر بالثياب التي عليه فإنه يفسد اعتكافه، لكن لو خرج لقضاء الحاجة وأخذ ثيابه معه من أجل أن يزيل العرق والنتن عنه، أو عليه جنابة فحينئذٍ لا إشكال، لكن أن يخرج من معتكفه من أجل أن يستحم، ومن أجل أن يترفه بالاستحمام لشدة الحر أو نحو ذلك فلا، وإنما يخرج بقدر الحاجة والضرورة؛ لقضاء الحاجة، أو إصابة الطعام ونحو ذلك.
والدليل على هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في حديث السنن: (أنه كان إذا خرج من معتكفه إلى بيته لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة، وإنما يكون لما لابد منه) وعلى هذا: فإنه لو تأمل الإنسان عيادة المريض وكذلك شهود الجنازة فإنها قد تصل في بعض الأحيان إلى مقام الحاجة، وقد يحتاج المريض منك أن تواسيه وتسليه، ومع ذلك لم يكن عليه الصلاة والسلام من هديه أن يُعَرِّج على المريض أو يجلس عنده، وإنما كان يسأل وهو مار: كيف فلان؟ وهذا أصل يخل به البعض بسبب الجهل بأحكام الاعتكاف، ولذلك تجد الإنسان يدخل إلى معتكفه ويخرج وقد تكون حالته هي هي لم يتغير؛ لأنه لم يستشعر أنه في عبادة تلزمه بالتقيد والانضباط بالحدود الشرعية، بحيث ينصرف عن هذه العبادة بقلبه وقالبه.
فلذلك: ينبغي على المسلم أن يحفظ هذه الأحكام، وهي: أنه لا يجوز له أن يفارق المسجد إلا من ضرورة وحاجة، فإن وُجدت الضرورة والحاجة جاز له أن يخرج.