[حكم صلاة الوتر]
قال رحمه الله تعالى: [ثم وتر يفعل بين العشاء والفجر].
قوله: (ثم وتر) أي: آكد النوافل بعد الصلوات التي شرعت لها الجماعة الوتر، والوتر المراد به الواحد في الأصل، ويعبر به عن كل ما لا يقبل القسمة على اثنين فيقال: إنه وتري فيشمل ذلك الواحد والثلاثة والخمسة إلخ.
والوتر من آكد النوافل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الوتر حق، ومن لم يوتر فليس منا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد زادكم صلاةً هي خيرٌ لكم من حمر النعم، جعلها لكم ما بين العشاء والفجر)، وقال الإمام أحمد رحمةُ الله عليه فيمن ترك الوتر: هذا رجل سوءٍ لا ينبغي أن تقبل شهادته.
وهذا يدل على تأكد الوتر، ولذلك جعله العلماء رحمهم الله سنةً مؤكدة.
واختلف العلماء رحمهم الله في الوتر على قولين مشهورين: فمذهب جمهور السلف رحمة الله عليهم أن الوتر سنةٌ وليس بواجب، وبهذا القول قال فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث، فلو ترك الإنسان الوتر فإنه لا يأثم، ولو فعله فإنه يثاب.
وذهب غيرهم إلى أن الوتر واجب، وبهذا القول قال الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه وأصحابه.
واستدل الذين قالوا: إن الوتر ليس بواجب بأدلة منها: أولاً: قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:٢٣٨]، ووجه الدلالة أن الله عز وجل قال: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:٢٣٨]، فدل على أن الصلاة التي أُمر بالمحافظة عليها وهي واجبةٌ على المكلف وترية، ولو قيل بوجوب الوتر لصارت الصلوات ستاً، فيكون العدد شفعياً لا وسط فيه؛ لأن قوله: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:٢٣٨] يدل على أن العدد وتري؛ لأنها خمس، ونصف الخمس معناه أنه يكون في وسط الخمس واحدة، فيكون المقابل لها اثنتان واثنتان، فيكون العدد بهذا وترياً.
ثانياً: ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُسْري به وعرج صلوات الله وسلامه عليه، قال الله له في آخر المرات حينما راجع ربه في الصلوات المفروضة: هي خمسٌ وهنّ خمسون)، فقوله تعالى: (هي خمس) أي: الصلوات التي كتبتها عليك يا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- وعلى أمتك هي خمس، (وهن خمسون) أي: في الأجر والثواب تفضلاً من الله عز وجل، ثم قال تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)، فثبت أنها خمس إلى قيام الساعة لقوله تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أي أنه لا يكون هناك تشريعٌ بزيادة.
الدليل الثالث: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سأله الأعرابي عن الصلوات التي فرضها الله عليه، قال له: (خمس صلوات في كل يوم وليلة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا.
إلا أن تطوع)، فدلّ على أن الوتر ليس بواجب؛ لأن الوتر غير الصلوات الخمس، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بواجبٍ عليه.
الدليل الرابع: ما ثبت في الصحيحين من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلة)، فهذا الحديث -إذا تأملته- من آخر ما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً في آخر حياته، ومع هذا قال له: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)، فلو كان الوتر واجباً لقال: افترض عليهم خمس صلواتٍ ووتراً.
فالمقصود أن هذه الأدلة من الكتاب والسنة تدل على أن الوتر ليس بواجب.
أما الذين قالوا: بالوجوب فقد استدلوا بأحاديث السنن: أولها: قوله عليه الصلاة والسلام: (أوتروا يا أهل القرآن).
ثانيها: قوله عليه الصلاة والسلام: (الوتر حقٌ، ومن لم يوتر فليس منا).
ثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد زادكم صلاةً هي خيرٌ لكم من حمر النعم، وهي الوتر).
قالوا: أما الحديث الأول: (أوتروا) فهذا أمر، والأمر للوجوب، وأما الحديث الثاني: (إن الله قد زادكم صلاةً) فإنه يدل على أنها زائدة على الصلوات الخمس، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يوتر فليس منا) فإنه ذم، والذم لا يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم، فثبت أن الوتر واجب.
فهذا حاصل أدلة القائلين بالوجوب.
والذي يظهر والله أعلم أن الوتر ليس بواجب، وذلك لصحة دلالة الكتاب والسنة على هذا القول.
أما استدلال من قال بالوجوب بقوله: (الوتر حق) فالجواب عنه بأن الحق معناه: الثابت، تقول: هذا حقي.
أي: ثابتٌ في ملكي، فالحق يعبر به بمعنى الثابت، فمراد النبي صلى الله عليه وسلم أن الوتر سنة من هديه، أي ثابتٌ في الشرع ومسنونٌ فعله.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يوتر فليس منا) فمعناه: ليس على هدينا الكامل، وليس المراد به الهدي اللازم الذي يعتبر من تركه وأخل به مذموماً.
وأما قولهم: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد زادكم صلاةً) يدل على الوجوب، فيجاب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم قد قال مثل هذا في ركعتي الفجر، وأنتم لا تقولون بوجوبها، أي أنه عبر بالزيادة في ركعتي الفجر، ومع هذا لا يقول الحنفية بوجوبها، فكما أنهم رأوا أن صيغة الخبر هناك لا تدل على الوجوب فيلزمهم القول هنا بأن صيغته لا تدل على الوجوب.
فأصح ما يقال في الوتر أنه مسنون وفيه فضيلة، ومن فضائله أنه يسن فيه الدعاء، وهو خاتمة صلاة الليل، فتشرع صلاة الوتر بالليل.
وأما صلاة الوتر بالنهار تنفلاً لا قضاءً، كما لو دخل المسجد وصلى ركعتين، ثم قال: أحب أن أتنفل بركعةٍ ركعة فقد أُثِر عن بعض الصحابة أنه فعل هذا، ومذهب جماهير العلماء رحمة الله عليهم أنك لا تسلم إلا من ركعتين إلا في الوتر وحده، على أن السنة والذي ينبغي للمصلي أن يصلي ركعتين ركعتين ولا يسلم من واحدة، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: (صلاة الليل مثنى مثنى)، وفي حديث آخر: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، فدل على أنه لا يسلم من واحدة، وما أثر عن الصحابي مردود إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يختص الوتر بأنه من صلاة الليل، والسنة فيه أن يكون في آخر الليل، كما سيأتي إن شاء الله بيان أحكامه.