[حكم إعطاء الزكاة لمن لا يستحقها]
قال المصنف رحمه الله: [وإن أعطاها لمن ظنه غير أهلٍ فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزه].
وذلك كأن يعطيها لإنسان يظنه فقيراً أو مسكيناً وهو غني، ثم بان بأنه ليس بأهل؛ فإنه يجب عليه أن يقضي.
وهنا ينبغي أن ننبه على مسألة مهمة، وهي أن الواجب على الإنسان إذا وجبت عليه الزكاة في ماله أن ينظر في حاله، فلا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن يعلم بوجود ضعفاء أو فقراء مستحقين للزكاة، أو أن يكون عالماً بأناس مستحقين للزكاة، علماً شخصياً بنفسه، كأن يعرف جيراناً له فقراء، أو يعرف أقارب له فقراء، ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يصرف لأي شخص غيرهم؛ لأنه إذا صرفها للغير الذي يشك في حاله كأنه ينتقل من اليقين إلى الشك على وجه يشك في براءة ذمته.
ولذلك يقول العلماء: إذا علم الإنسان فقراء محتاجين، وجاءه سائل يشك في أمره لم يجُز له أن ينصرف عن اليقين إلى شك، والقاعدة في الشرع: أن القدرة على اليقين تمنع من الشك، فما دمت قادراً على صرفها على وجه تستيقن منه أنها تصل إلى مستحقها فلا يجوز لك أن تعدل إلى وجهٍ تشك فيه.
وتفرّع على هذه القاعدة مسائل كثيرة، ومنها هذه المسألة، أنه ما دمت تعلم أن البيت الفلاني فيه فقراء وضعفاء محتاجون، وتعلم حاجتهم وأنهم مستحقون للزكاة، وجاءك من تشك في أمره يسألك لدين أو حادث أو فقر، لم يجز لك أن تنصرف من الأمر الذي تستيقن به صرف الزكاة على وجهها إلى أمر تشك فيه.
الحالة الثانية: أن لا يعرف الناس بنفسه، ولكن يعرفهم عن طريق الثقات، أو أناس فيهم أمانة وعدالة، ويغلب على ظنه أنهم يوصلون المال إلى مستحقه، فهؤلاء الأشخاص جاءوك وأخبروك أن هناك بيتاً من الفقراء أو المساكين، أو أن هناك شخصاً مديوناً، ويعلمون صدقه وحاجته وفقره، فحينئذٍ تنزّل هذه الحالة منزلة الحالة الأولى، ولا يجوز لك أن تعدل عن هذا الأمر الذي غلب على ظنك فيه وصول الزكاة إلى مستحقها إلى أمر تشك فيه، وتعتبر هذه الحالة لاحقة بالحالة الأولى.
الحالة الثالثة: أن لا تعلم أناساً، وليس هناك أشخاص تستطيع أن تعتمد عليهم في الكشف والتحري، وجاءك من يسأل، فلا تخلو أيضاً من حالتين: إما أن يمكنك أن تتحرى وتتثبت في أمره؛ فلا يجوز أن تدفع له مباشرة قبل أن تتحرى وتتثبت.
مثال ذلك أن يقول لك: إنه يسكن في حي ما، فتقول له: اذهب وأحضر لي شهادة من إمام المسجد أو أحضر لي من جيرانك من أعرفه يزكيك أو يشهد بأنك محتاج أو أنك فقير، ففي هذه الحالة إذا أمكنك بالتحري والسؤال أن تعرف جليّة أمره، كان من التساهل والتفريط في حق الله عز وجل أن يُدفع المال إليه مباشرة؛ والأمانة والصدق في القول من العدالة، والله عز وجل يقول: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:٧٢] فأخبر بكونه ظالماً وجاهلاً، فكان الأصل أنه ينبغي أن يزكَّى، حتى يغلب على الظن صِدْقُه، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كان على ظهر غنى وأصاب ماله جائحة أن يقوم اثنان من ذوي الحجى يشهدان بأن مال فلان قد أصابته جائحة.
فعلى هذا يكون من التفريط والتساهل أن يأتي الإنسان إلى صدقة واجبة عليه فيعطيها لكل من سأل، ومن جاءه أعطاه، ومن أخبر له صدّقه، فهذا من التساهل والتضييع.
بل قد تجد أجرأ الناس على السؤال من أكذب خلق الله وأكثرهم حيلة، بل قد تجده يملك من الأموال ما لا يملكه الذي يتصدق عليه، وقد رأينا ذلك بأعيننا، ولا نبالغ فيه، بل وجدنا من يملك العمارة والعمارتين وهو يسأل ويكذب ويدعي أنه محتاج، وقد بنى ثروته وأمواله على السؤال، خاصة في هذا الزمان، عندما تساهل كثير من الأغنياء.
ولذلك لما تساهل الأغنياء في صرف الزكاة إلى المستحقين عظُمت حاجة الناس، ووجد الضعفاء والفقراء الذين هم في فقر وضعف ومسكنة لا يعلمها إلا الله عز وجل، وضاعت حقوقهم بسبب هؤلاء السؤَّال، والغني يحضر ماله وكل الذي يريده أن يخلص من هذه الزكاة، ويحس أنه من الورع أن يتخلص منها مباشرة، ويعطيها لكل من هب ودب، وهذا لا تبرأ به الذمة، وأنت تعلم أن هذا الزمان فيه الكذب وفيه الغش وفيه التدليس، فتأتي إلى حق الضعفاء والفقراء والمساكين والمديونين والمعسرين، فتتساهل فيه فتعطيه لكل سائل، وتعطيه لكل من يقف عليك، فهذا من التساهل.
فإن كنت عاجزاً بحثت عمن تثق بدينه وأمانته، بأن تذهب إلى إمام مسجد أو تذهب إلى عالم تثق بدينه وأمانته، فتعتمد عليه بعد الله عز وجل في صرف زكاتك، أما أن تُعطى الزكاة لكل من سأل، ثم إذا بان غنياً عفي منها فلا، هذا من الصعوبة بمكان، ولا شك أنه يضيِّع حقوق الفقراء والضعفاء والمساكين، وعلى هذا فإنه ينبغي التفصيل.
أولاً: إن كان الشخص بنفسه يعلم الضعفاء والفقراء لم يَجُز له أن يصرف المال للسؤَّال الذين يشك في أمرهم.
ثانياً: إذا كان لا يعرف ولكنه يستطيع أن يعتمد على من يثق بدينه وأمانته من أهل العقل والحجى ويسلمهم زكاته وجب عليه ذلك، ولم يجز له أن يعطي الزكاة لكل سائل وهو لا يعرف أهو صادق أو كاذب.
ثالثاً: إذا لم يمكنه الأمران، وأمكنه أن يعتمد على تزكية إمام مسجد أو تزكية جيران يثق بهم طولب بذلك.
فإن تعذر عليه في هذه الحالة، ولم يستطع أن يستجلي الأمر بنفسه، ولم يستطع أن يطالبه كأن تكون حاجة نازلة، أو يكون غريباً منقطعاً، كابن السبيل، فحينئذٍ إن دفع له الزكاة على هذا الوجه فإنه يتحرى فيما في وسعه، كأن يسأله: متى قدمت، أو يسأله عن أمورٍ يظهر بها صدقه وكذبه.
فإذا فعل ذلك وتحرّى وبان خطؤه، فمذهب طائفة من العلماء: أنها تجزيه؛ لأنه اجتهد وتحرّى ولم يكلّفه الله إلا ما في وسعه.
ومذهب طائفة من العلماء: أنه يلزمه الضمان لأنه قصّر، ولو تحرى لتبيّن له الأمر، ومن قصّر يلزم بعاقبة تقصيره، والتفصيل في هذه المسألة قوي: فإن كان هناك ضعفاء غير هذا الفقير وتساهل في صرفها إلى هذا السائل المشكوك في أمره ضمن، وإلا قوي القول الذي يقول بالإسقاط وببراءة الذمة.
وقوله: (وإن أعطاها لمن ظنه غير أهلٍ فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزه).
أي: إن أعطاها لمن ظنه أهلاً فبان أنه غير أهل، أو أعطاها لغير المستأهل كأن يعطيها لغني، فلو أعطاها لإنسان يظنه غنياً ثم بان فقيراً فهل تجزي؟ للعلماء قولان: قال بعض العلماء: تجزيه؛ لأنها وصلت للمستحق، وقال بعضهم: لا تجزيه، وهو الصحيح.
والسبب في هذا: أنه إذا أعطاها لغني فهو مستهتر خارجٌ عن قصد القربة والعبادة بالزكاة، فتخلّفت نية الزكاة المعتبرة، وحينئذٍ تكون هبة لمحض الفضل منه، ولا تكون زكاة شرعية، ويلزمه قضاؤها.
قال المصنف رحمه الله: [إلا لغني ظنه فقيراً].
والأصل في ذلك حديث الصحيح في قصة الرجل الذي تصدّق على الزانية وتصدق على الغني، فقيل له: (أما الزانية فلعلها أن تستعف، وأما الغني فلعله أن يتّعظ ويدَّكر)، قالوا: إن هذا يدل على أنه إذا تصدَّق على غني يظنه فقيراً أنه يجزيه.
وقال بعض العلماء: لا يجزيه؛ لأنه قصَّر، والحديث شرع من قبلنا وهو شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، والأصل في الشرع أنه يجب عليه أن يتحرى ويسأل، وعلى هذا فلا يجزيه، والحديث وارد في صدقة النافلة، ولا يعتبر دليلاً على جواز الاعتداد بها في صدقة الفريضة.