[الفرق بين الوصية والعطية]
قال رحمه الله: [ويسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية].
شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يفرق فيها بين الوصية والعطية، وفي الحقيقة أن هذا الفصل -تصرفات المريض- هو وسط بين العطية وبين الوصية؛ ولذلك تتداخل أحكام الوصية والعطية، ويحتاج المصنف إلى بيان الأمور التي يفرق فيها بين الوصية والعطية.
فالوصية: عهد من الميت لورثته أو لمن يقيم على وصيته من بعد موته، فهي إسناد لما بعد موته، كقوله: إذا مت فابنوا لي مسجداً، أو احفروا بئراً، أو افعلوا كذا وكذا من الأمور التي يرجو بها الثواب والأجر بعد موته، فهذه هي الوصية، فإذا وقعت من الإنسان بعطيةٍ أو بمال، فإن كانت من شخصٍ واحد فلا إشكال، لكنه لو أعطى ثلاثة أشخاص، كأن أعطى محمداً وزيداً وعمراً، فوصى لمحمد بمائة ألف، ثم بعد يوم وصى لزيد بمائة، ثم بعد يوم وصى لعمرو بمائة، فهذه ثلاثمائة ألف ريال أوصى بها، وكانت تركته مثلاً تسعمائة ألف ريال، إذاً: هي في حدود الثلث ولا إشكال، لكن عند موته أصبحت تركته -مثلاً- أربعمائة ألف ريال، فنقصت فلم تعادل الثلث أو نقصت عن الثلث، فما الحكم؟ ننظر إلى المال الذي خلفه عند موته ونأخذ ثلثه ونقسمه أثلاثاً، لمحمد الثلث، ولزيدٍ مثله، ولعمرو مثله، فننظر نسبة ما وصى به لكل واحدٍ ويسوى بينهم، فيسوى بين المتقدم وبين المتأخر، فعلى هذا الوصية يشرك فيها بين الأوصياء، فنقدم متى وصى لزيد ومتى وصى لمحمد، فمحمد متقدم ثم بعده زيد ثم بعده عمرو، في الوصية: لا تنظر إلى التاريخ فتقدم من هو مقدم ونؤخر من هو مؤخر، فلا يجتمع الكل عند الموت؛ لأن الوصية في الأصل لا ينتقل الاستحقاق فيها إلا بعد موت الشخص، فهي مسندة لما بعد الموت، فما قبل الموت يكون قد قدم هذا أو أخر هذا فلا تأثير له؛ لأنهم عند الموت اشتركوا جميعاً في كونهم موصىً إليهم.
قال رحمه الله: [ويبدأ بالأول فالأول في العطية].
العطية عكس الوصية، فمثلاً: لو أن الذي حدث في الوصية حدث في العطية، ففي الوصية قال: إذا أنا مت فأعطوا محمداً مائة ألف، وبعد يوم قال: إذا أنا مت فأعطوا زيداً مائة ألف، وقال لعمرو مثل ذلك، لكن في العطية جاء قبل وفاته أو في مرض الموت وقال: يا محمد! خذ مائة ألف من مالي، (خذه) هذه حالة ما أسندها إلى بعد الموت، بل قال: خذ، أو أعطوا محمداً مائة ألف من مالي، وهذا الكلام وقع في أول النهار، وبعد ساعة دخل عليه زيد، فقال: أعطوا زيداً مائة ألف من مالي، ثم بعد ساعة دخل عليه عمرو فقال أيضاً: أعطوا عمراً مائة ألف من مالي، فهذه عطيةٌ لثلاثة أشخاص، ولكنها لم تقع في وقت واحد، فحينئذٍ يقدم المقدم ويؤخر المؤخر، فلو أنه كان في وقت قوله: (أعطوا)، تعادل الثلاثمائة ألف ثلث ماله، ثم تأخروا في القبض ولم يقبضوها حتى أصبح ماله -مثلاً- ثلاثمائة ألف، فحينئذٍ لا تستطيع أن تعطي كل واحدٌ منهم مائة ألف، وأصبح الثلث مائة ألف، فهل تقسم الثلث بينهم؟
الجواب
لا، في العطية نبدأ بالمقدم، وهو أول من أعطاه، فحينئذٍ يعطى المائة الألف، وأما الآخران فلا شيء لهم؛ لأنه زائدٌ عن الثلث، فهذا بالنسبة لمسالة التسوية في الوصية والمفاضلة في العطية.
والسبب في هذا: أن الموجب -يسمونه العلماء: الموجب أو السبب- يختلف في الوصية والعطية، فالعطية تلزم بالقبول وعقدها معتبر، فإذا قال: أعطيتك مائة ألف، وقال الآخر: قبلت، فحينئذٍ تم العقد، والعقد الأول مقدم على العقد الثاني، بمعنى: أن العطية الأولى والعدة بها مقدمةٌ على العدة الثانية وهكذا الثانية بالنسبة للثالثة بخلاف الوصية، أما الوصية فإنها موقوفة على الموت، فإذا كان الإنسان حياً فإنه لا يحل لأحد استحقاق المال، فهؤلاء الثلاثة كانوا كلهم في حال حياته ولو قبل موته بلحظة كلهم في كونهم موصىً إليهم، فهم جميعاً مشتركون، بخلاف العطية، فالعطية لا تنتظر الموت، بل العطية مباشرة؛ لأنه لم يعلقها على موت ولم يعلقها على شرط، وعلى هذا فإنه يقدم في العطية الأول فالأول.
وأما في الوصية فيسوى بينهم ويشرك، على خلافٍ بين العلماء في قضية التشريك، فبعضهم يقول: على قدر حصته، بمعنى: ينظر إلى نسبة المبلغ الذي أعطاه مع شركائه كما ذكرنا، فإذا كانوا متساوين في المبالغ، فيعطى كل واحدٍ منهم الثلث إذا كانوا ثلاثة -أي: ثلث الثلث- وأما إذا قال: أعطوا محمداً -مثلاً- خمسمائة ألف، وأعطوا زيداً مائتين وخمسين ألفاً، وأعطوا عمراً مائتين وخمسين ألفاً، فعند ذلك نعطي الأول سهمين منها -وهو النصف- ونعطي الثاني ربع الثلث، ونعطي الثالث ربع الثلث، وهذا إذا كان يفاضل بينهم، فحينئذٍ النسبة بين الخمسمائة والمائتين والخمسين للآخرين نسبة النصف، فمجموع عطيته مليون، فلو ترك قدراً لا يعادل ثلثه المليون، بل يكون الثلث نصف مليون، فإذا كان قد أعطى محمداً خمسمائة وأعطى زيداً مائتين وخمسين وعمراً مائتين وخمسين، فإذا كان الثلث خمسمائة ألف فيعطي مائتين وخمسين لمحمد ومائة وخمسة وعشرين لكل واحدٍ من الآخرين، وهذا بالنسبة للقسمة عند المفاضلة في الوصايا إذا ضاقت عن الثلث.
وقد تقدم في المجلس الماضي أن الوصية تخالف العطيّة في جملة من المسائل، وذكرنا بعض هذه المسائل التي أشار إليها المصنف رحمه الله، ثم شرع في بيان مسألة من هذه المسائل التي تخالف فيها الوصية العطية، وهي: أنه لا يملك الرجوع في العطية، بخلاف الوصية.
فلو أن مريضاً مرض الموت أعطى عطية وقبِلها المعطَى، وحُكم بلزومها، فإنه لا يملك المريض الرجوع فيها، ولا يحق للورثة أن يُطالبوا المعطَى بما أعطاه مورِّثهم؛ لأنها أصبحت لازمة، وحينئذٍ تكون ملكاً للذي أُعطِي، فلو أعطاه سيارة مثلاً، أو أعطاه أرضاً، أو أعطاه نقوداً، وحكم بلزوم العطية؛ فإنه حينئذٍ لا يملك صاحب العطية الرجوع فيها، وهكذا ورثته ليس من حقهم أن يطالبوا بنقض هذه العطية ورد المال إليهم.
قال رحمه الله: [ولا يملك الرجوع فيها].
أي: بخلاف الوصية، فإن الوصية من حقك أن تبدل فيها وتغير؛ لأن الوصية تصرف لما بعد الموت، وحينئذٍ من حقك أن تغير في هذا التصرف، وقد وسّع الله على عباده في تغيير الوصية، فلو كانت الوصية لا يملك الإنسان الرجوع فيها لحصل في ذلك من الضرر والمفاسد على العباد شيءٌ كثير.
فقد يوصي الإنسان بشيءٍ بناءً على أن أولاده صغار، ثم يتغير الحال فيصبح أولاده كباراً، وقد يوصي لشخصٍ يعرفه بالأمانة والديانة والاستقامة والصلاح وحسن النظر في الأمور، ثم يتغير حاله فيكبر سنه، أو تأتيه ظروف تغير من حاله بحيث يكون من الصالح لورثته من بعده وذريته ألا يليهم مثل هذا، وبناءً على ذلك وسع الله عز وجل على عباده في الوصية، وجعل لهم حق الرجوع فيها والتغيير والتبديل، ولذلك قال بعض الأئمة رحمهم الله: إن الله رحم العباد بجواز التغيير في الوصية، فلولا ذلك لما أقدم أحدٌ على الوصية خوفاً من أن يُلزم بشيء لا يملك الرجوع فيه من بعد.
فالشاهد: أن الوصية والعطية بينهما خلاف، فالعطية لا يملك الرجوع فيها، والوصية يملك الرجوع فيها، ولا شك أن الإلزام بالعطية مستقيم مع مقاصد الشريعة العامة وأصولها التي تعتبر العطية بمصالحها المترتبة عليها.
بخلاف الوصية فإن الحكم يختلف فيها، ولذلك جاز الرجوع فيها.
الأمر الثاني: أن الوصية معلقة على الموت، فالتصرف فيها بعد الموت كما ذكرنا، فأنت لست بملزم بشيء، ويجوز لك فسخها، فما دام أنه لم يقع الموت فمن حقك أن تغير وتبدل، وتقدم وتؤخر، فلا حرج عليك في ذلك.
فمثلاً: لو أنه أوصى أن يُعطى ربع ماله إلى قريب، ثم نظر في هذا القريب فوجد أموره قد تحسنت، كأن كان فقيراً حينما كتب الوصية، وكان محتاجاً حينما كُتبت له الوصية، ثم بعد سنة أو سنتين -والوصية موجودة- تغير حال هذا القريب فأصبح أغنى حتى من الموصي، فحينئذٍ يتدارك الموصي، وينظر من هو أحوج منه، ولربما كان ورثته وذريته أحوج، فيبطل الوصية ولا يوصي لأحد، ويبقي المال لورثته؛ لأنه يرى في ذلك أنه أعظم لأجره وأحسن عاقبة لذريته وولده.
فمن حقه أن يبدل ويغيِّر، ويقدم ويؤخر في الوصية كما ذكرنا؛ لوجود المصالح المترتبة على هذا التغيير؛ ولأن الناس بحاجة إليه، فوسع الله على عباده في ذلك.
وقوله: [ويعتبر القبول لها عند وجودها].
أي: ويعتبر القبول للعطية عند وجودها، فإذا قال له: أعطيتك سيارتي، أو أعطيتك أرضي، وكانت دون الثلث في مرض الموت، وقال: قبلت، فإنه إذا قال: قبلت، تمت الصيغة بإيجابها وقبولها، وحينئذٍ يكون له ما أعطي؛ لأنه قبل في حياة المعطِي، فلابد أن يكون القبول حين العطية، بخلاف الوصية، فالوصية يمكن أن يتأخر قبولها إلى ما بعد الموت؛ لأنها في الأصل مسندة ومضافة، والتصرف فيها معتبر لما بعد الموت، فأُعطِي كل عقد من هذين العقدين حقه.
وقوله: [ويثبت الملك إذاً].
أي: ويثبت الملك للمعطى، وقوله: (إذاً): التنوين عِوض عن كلمة، أي: إذا قبله، أي: إذا قبل فإنه يثبت له الملك حينئذٍ، وأما إذا لم يقبل فحينئذٍ تُلغى العطية لأنها متوقفة على قبول المعطَى.
وقوله: [والوصية بخلاف ذلك].
أي: أنها ضد العطية في الأحكام التي ذُكرت، وبناءً على ذلك: لا تكون الوصية كالعطية، فيسوَّى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ولكن يراعى الأقدم فالأقدم في العطية، ولا يملك الرجوع في العطية، ويملك الرجوع في الوصية.