[الفرق بين قوله:(أمرك بيدك) وبين قوله: (اختاري نفسك)]
قوله:[ويختص: اختاري نفسك بواحدة وبالمجلس المتصل] الفرق بين التفويض -كقوله: أمرك بيدك- والتخيير: أن التخيير يختص بواحدة، وقد خير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}[الأحزاب:٢٨] هذا الخيار الأول، والخيار الثاني:{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}[الأحزاب:٢٩] وعظيماً من الله ليست بالهين، فخيرهن بين أن يبقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصبرن على ما هو عليه من اختيار الله له من الآخرة، وضيق الدنيا، وبين أن يخترن السراح والفراق، فلما ابتدأ بـ عائشة رضي الله عنها قال لها عليه الصلاة والسلام:(لا تقولي شيئاً حتى ترجعي إلى أبويك) يعني: إلى أبيك وأمك، فبدأ بها رضي الله عنها، فقالت: وما ذاك، فأعطاها الخيار امتثالاً لأمر الله عز وجل أن يخيرهن، فلما أعطاها الخيار رضي الله عنها وأرضاها قالت:(أفيك أستخير يا رسول الله؟!) أي: هل هذا الأمر يحتاج أن أقوله لوالدي؟! رضي الله عنها وأرضاها، وهذا من مناقبها، فإنها ما ترددت ولا شاورت، وفي الحديث ما يدل على كمال منزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم علم علم اليقين أنها لو سألت والديها ما ترددا في بقائها معه، وأنها تكون عنده وأنها تختاره عليه الصلاة والسلام، فخشي صغر سنها وخشي أن يكون ضيق الحال مؤثراً عليها فتعجل، فقال عليه الصلاة والسلام:(حتى ترجعي إلى أبويك) فردها إلى أبويها، فدل على أنه يحبها، وأن لها منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يحب أن تذهب عنه أو تختار غيره عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على صدق الزوجية وصدق المحبة، وأنه مع كمال نبوته كان يعطي الزوجة حقها من الحب الصادق، ولنا فيه أسوة عليه الصلاة والسلام، في كمال حبه لأزواجه وإكرامه لهن، حتى في المواقف الحرجة حينما قذفت رضي الله عنها واتهمت بالإفك جاء وجلس معها وقال:(يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً؛ فتوبي إلى الله واستخيريه) فكمال الحب للزوج كان للنبي صلى الله عليه وسلم منه أكمل الحظ وأكمل نصيب؛ لأن هذا من أصدق ما يكون في العشرة والإسلام، ولا يليق بالمسلم أن يكون مع زوجته يأخذ منها حظ الشهوة والوطر وهو يعلم أنها مجبولة على المحبة، وفطرة النساء في المحبة أقوى من الرجال، فيقتصر فقط على قضاء حاجته ونهمته وشهوته، دون أن يعطي من الكلمات والأفعال والتصرفات والمواقف ما يدل على الإلف والحب، وما يدل على صدق المودة التي شهد الله عز وجل أنها الفطرة بين الزوج والزوجة، وجعلها منة من فوق سبع سماوات فقال:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم:٢١] فأهل العقول وأهل البصائر السوية حينما ينظرون في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يجدونه عليه الصلاة والسلام منحصراً فقط في العبادة، بل كان هديه أكمل الهدي حتى في المعاشرة والمشاعر، حتى إذا جاء المتبجحون من أهل الهوى والمجون والعشق وجاءوا بالغرام الساقط، وجاءوا بالعبارات البذيئة البشعة؛ جئت بالإسلام وقلت لهم: إن الإسلام هذب الفطرة، وهذب الشهوة، فهو يعترف بالشيء الموجود، فلا يدخل عليك الإباحي ويقول لك: أنت تكتم الغريزة، تقول له: كذبت وفجرت ولقمت الحجر، فالإسلام لم يكتم الغريزة ولكن هذبها، وجعلها في مكانها ونصابها، وقدرها فيما أحل الله، ثم جعل لها من البواعث، ومن السياج ما يحفظ ود الزوج مع زوجته، وهذا لا يكون ولن يكون إلا بالمشاعر الصادقة، فحتى في المواطن الحرجة، في حال التخيير، وهذه من أصعب المواقف التي امتحن فيها عليه الصلاة والسلام، ولو جئت تنظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت أنها ما خلت من محنة حتى في أمور البيت والزوجية، امتحن في كل شيء صلى الله عليه وسلم، في نفسه وماله، حتى في ولده في فقد العزيز عليه، جميع أنواع وصنوف البلاء كلها عليه الصلاة والسلام صبت عليه؛ لأنه في أعلى المقامات من الحب، والله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فجعل الله لنبيه من الابتلاء أعلاه، ومن ذلك مسألة التخيير التي نعرف، فكان فيها الأحكام والفوائد والأسرار والحكم، ويحتاج الإنسان أن يقرأ سورة الأحزاب، ويقرأ ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيره في مسألة التخيير، وكلام العلماء على ذلك، وأيضاً في سيرة ابن هشام في تخييره عليه الصلاة والسلام لزوجاته، وكيف كان حاله عليه الصلاة والسلام، تقول عائشة رضي الله عنها: ما أرى الله عز وجل إلا أنه يكتب لك ما ترضى، يعني الشيء الذي تحبه، ولذلك يقول له:{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}[البقرة:١٤٤] فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد هذا الشيء، فلما علم أن نبيه يحب ذلك حقق له ما يحبه.
ولما كان يحب عائشة رضي الله عنها ابتدأ بتخييرها وكان يحبها، فجعلها الله عز وجل طوعاً له، وجعلها الله عز وجل فوق ما كان يظن، يقول لها:(اجعلي الأمر إلى والديك، قالت: يا رسول الله! أفيك أختار!) تعني: أفيك أستخير؟! من هذا الذي أستخيره فيك! رضي الله عنها وأرضاها، وسرها الله كما سرت نبيه رضي الله عنها، فحق على المسلم أن يترضى عنها، وأن يدعو الله أن يجزيها عن نبيه خير الجزاء، بل وعن الإسلام والمسلمين، بخٍ بخٍ هذه النعمة العظيمة التي امتن الله بها على الصديقة، والله عز وجل أعلم حيث جعل الخيرة، فاختار لنبيه الأمهات الطاهرات العفيفات، وصدق الله إذ يقول في كتابه:{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ}[النور:٢٦] فرضي الله عنهن وأرضاهن، وجعل أعلى الفردوس مدخلهن ومثواهن، والشاهد من هذا: مسألة التخيير أن الزوج إذا خير زوجته تكون لها طلقة واحدة؛ لأنه يكون بها الخيار، وأيضاً يختص التخيير بالمجلس، فلو قامت عن المجلس، انقطع الخيار لها، ويرجع الأمر إلى الزوج.
قال رحمه الله:[ما لم يزدها فيهما] يقول لها: لك طلقتان، لك ثلاثاً، فعلى الأصل لها طلقة واحدة، (ما لم يزدها فيهما) أي: في المجلس، وعلى هذا فإنه إذا زادها زادها في المجلس وزادها في العدد، (يزدها فيهما) أي: يزيدها في المجلس في الزمان، وفي العدد، فيقول لها: لك الخيار إلى منتصف الليل، فيكون زادها عن المجلس بالزمان، أو لك الخيار ما دمت في البيت، وهما جالسان في غرفة فتقوم إلى غرفتها، فيكون زاد الخيار في المكان، وزاد الخيار في الزمان، وأما زيادة العدد فيقول: لك أكثر من واحدة، فلك أن تختاري أن تطلقي نفسك اثنتين إن اخترت، أو ثلاثاً، فيزيدها على الواحدة.