إذا لم يأتِ الخطيب يوم الجمعة
السؤال
جماعة مسجد غاب عنهم خطيبهم يوم الجمعة، فصلوا ذلك اليوم ظهراً بلا خطبة، بحجة عدم وجود من هو أهل للخطابة، هل فعلهم هذا صحيح؟ وإن لم يكن فماذا يلزمهم؟
الجواب
لا شك أنه ينبغي عدم الاستعجال، المشكلة هنا في الاستعجال، فالمؤذن بمجرد ألا يجد الإمام يخاف الإحراج، فيقول مباشرة: يا جماعة! سنصلي الظهر، ثم يصلي بهم ظهراً، فالمنبغي أن يسألهم، ويقول: هل فيكم أحد من طلبة العلم ممن يستطيع أن يصلي بنا الجمعة؟ حتى يعذر إلى الله عز وجل، فإن وجد أحداً بهذه الصفة مكنه أن يقوم ويخطب بالناس، ويؤدي لهم صلاتهم؛ لأن الأصل: أنه يجب عليهم أن يصلوا الجمعة، وأما إذا لم يوجد فحينئذ ينظر: فإن وجدت مساجد أخرى فيها الجمعة، فإنه يجب عليهم أن يخرجوا من هذا المسجد ويدركوا الجمعة في المساجد الأخرى؛ لأن الله فرض عليهم جمعة، ولم يفرض عليهم ظهراً، ولا يستقيم أن يصلوا ظهراً والمساجد الأخرى فيها جمعة، وعلى هذا ينبغي تنبيه الناس لهذا لأمر؛ أنهم لا يصلون ظهراً مع إمكان أداء الفرض-أعني الجمعة- للحاضر المقيم.
أما لو تعذر، ما في في القرية إلا هذا المسجد، وليس هناك إلا إمام واحد، وليس هناك أحد يستطيع أن يخطب، وهذه مصيبة، المؤذن لو وقف وقام وقال: أيها الناس! اتقوا الله ربكم، وذكرهم بآية من كتاب الله، أو بحديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو حتى قال: أيها الناس! اتقوا ربكم، أمامكم الجنة! أمامكم النار! رغب ورهب، فجمعتهم صحيحة، حتى: لو خطب عشر دقائق، أو حتى سبع دقائق، أو حتى خمس دقائق، حتى لو قال: أيها الناس! اتقوا ربكم، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، اتقوا الله في أنفسكم، في أهليكم، في أولادكم، ولو قالها من قلبه لربما كانت مغنية عن عشرات الخطب، وخير الكلام ما قل ودل، فهذا لا يؤثر في صحة الجمعة، ثم جلس، ثم قام مرة ثانية: يحمد الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أيها الناس! أذكركم ما ذكرتكم في الخطبة الأولى، ما يضر، هي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حولها ندندن) أي: الجنة التي نرجو من الله تعالى أن يجعلنا من أهلها، والنار التي نرجو من الله عز وجل أن ينجينا وإياكم منها، هي كلها ندور حولها، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت صلاته أطول من خطبته، وهذا من مئنة فقه الرجل، وصلاته يقرأ فيها بسبح والغاشية، وسبح والغاشية مقدارها صفحتان، يعني: ورقة واحدة، والأئمة الآن يأتي الواحد منهم ومعه درزن من الأوراق، يريد ألا ينفض الناس إلا وقد علموا تفاصيل الشريعة من أول الإسلام إلى آخره، خير الكلام ما قل ودل، فإنه قد يقوم الرجل العامي الغيور، ويتكلم على أمر من الأمور التي يعلم حكم الله عز وجل فيه، أو يرى الناس تقصر فيه، فيقف ويقول: يا ناس! اتقوا ربكم، بأسلوب عامي، لكنها تقع في القلوب، ويقوم البلغاء والفصحاء والمتكلمون، وإن شئت قلت: الثرثارون، ولا يغني ذلك شيئاً، ويخرج الناس كما دخلوا! إذاً: قد يعظ الإنسان بالكلام القليل ويكفي، فلا تصعب الجمعة، وما ذكر من اشتراط الحمدلة، وقراءة الآية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه شروط معروفة، لكن تكلم العلماء فيها، وأنها اجتهادية، والصحيح أن خطبة الجمعة شرطها: البشارة والنذارة، وهي رسالة الرسل؛ لأن أصل الرسالة: السفارة، أي: سفارة الرسل من الله عز وجل إلى العباد، وقد بينها الله في هاتين الكلمتين: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء:١٦٥]، ومن هنا بعض الناس يقول: العلماء قصروا، وخانوا الأمة؛ لأنهم لم يبينوا دينه، ألا تعلم أنه لو وقف عالم وقال: أيها الناس! اتقوا ربكم، أنه قد أعذر إلى الله في شرائع للإسلام لا يحصيها إلا الله عز وجل؟! من هذا الذي يستطيع أن يقول: اتقوا ربكم، من قلب مخلص؛ فإذا قالها هز القلوب إلى ربها؟ ومن يستطيع أن يقول هذه الكلمة التي كثر قائلوها، وقل العاملون بها؟ ومن يستطيع أن يقولها من قرارة قلبه فلا تجاوز أذناً حتى تستقر في قلبها؟ إنما هو المخلص لله عز وجل.
وأذكر الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله برحمته الواسعة كنا ذات يوم في المسجد النبوي بعد صلاة الظهر -وهذا من تواضعه رحمه الله برحمته الواسعة-، وكان هناك حريق في سوق المدينة، واستمر قرابة سبعة أيام، وكان عبرة! سوق للذهب حُرق ومكث أياماً آية من آيات الله، هذا الموضع كان فيه بعض التقصير والتساهل من بعض الناس، وكأنه ابتلاء من الله عز وجل، فلما صلى الناس الظهر، قام رجل من عامة المسلمين، ولكنه قلّ أن يغيب عن الصف الأول في الحرم، وقل أن يغيب عن مجلس الذكر في المسجد النبوي، ما يمكن أن يغيب بعد المغرب إلى العشاء، لا بد أن تراه في حلق أهل العلم، وعنده عناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعطش للخير، وكان غيوراً على الطاعة والخير، فقام هذا الرجل الكبير السن، ووقف موقفاً مؤثراً جداً، وقف بعد الصلاة وهو شيخ حطمة! ضعيف البدن! ضعيف الصوت! وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه كلاماً مؤثراً، ومما قال: أين السوق بالأمس؟ أين الذهب؟ أين المجوهرات؟ انظروا كيف أن الله عز وجل يبتلي عباده! وكيف تأتي نقم الله عز وجل! تحدث قرابة عشر دقائق، لكن فيها تذكرة لمن عقلها، وله أذن واعية، فأثر فينا كثيراً، وكان الشيخ رحمه الله جالساً في الصف الثاني تقريباً في الحرم، وكان بيني وبينه شخصان، وما كنت أعلم أنه في الحلقة، وفجأة الرجل قال: الله أكبر، الشيخ ناصر موجود؟! فكان كما يقولون: خرب الذي فعل، كنا في الموعظة، وتأثرنا، فإذا بالشيخ رحمه الله ينشج من البكاء، ويرفع صوته، ويقول: أناشدك الله استمر! استمر! استمر! فتأثر بكلامه، وهو رجل من العامة، فوضع الشيخ يديه على رأسه وهو جالس وقد نشج وتأثر وبكى.
فهذا الرجل من عامة المسلمين، ومع ذلك يعظ علماء، ويؤثر فيهم؛ لأن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت كذبة منمقة محسنة -ولوكانت من أبلغ الناس إذا لم يرد بها وجه الله- لم تبلغ مبلغها أبداً؛ ولذلك وعظ أحدهم بكلام بليغ مؤثر في القلوب، فجاءه رجل بعد الخطبة، وقال له: يا فلان! إنك قلت كلاماً تندك منه الجبال، من قوته وبلاغته وفصاحته، ولكني أقسم بالله أنه ما بقي في قلبي منه شيء، فإما أن يكون فيك العيب أو فيّ العيب! يعني: إما أن تكون لا تريد وجه الله-أستغفر الله- بهذا الكلام؛ فاتق الله، وإما أن أكون أنا لا أحسن سماع المواعظ، ولا التأثر بكلام الله عز وجل وكلام رسوله؛ فأنا الذي فيّ العيب، فأعطاه موعظة قصيرة، لكنها مؤثرة.
فتأثر الناس في خطبة الجمعة لا يشترط أن يأتي الإنسان بكلام كثير، وكم رأينا من أمور مؤثرة جداً؟ الشخص يجلس يخطب قرابة النصف ساعة، والناس في شدة الظهيرة، وقد يكون هذا في شدة الصيف، والناس في أحوج ما يكونون إلى من يرفق بهم، وإلى من يتألفهم.
وتجد بعض الخطباء الحكما يختصرون بكلام قليل، وتجد لهم من القبول ومحبة الناس، وغشيانهم لمساجدهم وقبولهم لمواعظهم الخير الكثير؛ لأنهم حببوا الناس في دين الله عز وجل، ولم ينفروهم.
فالشاهد: أن الخطبة -ويُنبه المؤذنون على هذا- تتوقف على التذكير بالله عز وجل، فإذا قام شخص وذكر بالله كفى، لكن إذا وجد مسجد تقام فيه الخطبة فأنا أنصح أنه لا يقوم أحد ليخطب إذا كان نفع الناس بالخطب الأخرى أعظم، وقد يؤم بهم عامي يلحن في الفاتحة أو يخل بها، فتبطل صلاتهم.
فخلاصة القول: إذا لم يوجد مسجد آخر -وهذا الشرط الأول- فيه جمعة جاز لهم أن يصلوا الجمعة.
الشرط الثاني: أن يغلب على ظنه أنه لا يوجد الخطيب إلى آخر الوقت، وهذا يغفله كثير ممن يفتي في هذه المسألة، فإن العلماء قالوا: إن الجمعة واجبة في هذا اليوم، فمنهم من شدد إلى آخر وقت الظهر، فلم يعط رخصة بصلاتها ظهراً إلا إذا ضاق عليهم الوقت, ولم يبق إلا قدر ما يصلون الظهر؛ لأنها فريضة لازمة عليهم، فإن رجوا حضور الإمام أو حضور من يقوم بالخطبة ولو بعد وقت؛ ينتظرون في المسجد، وحينئذ تكون الجمعة لازمة عليهم، فإذا تحقق الشرطان جاز لهم أن يصلوا ظهراً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.