[الرباط ومدته وفضائله]
قال رحمه الله: [وتمام الرباط أربعون يوماً] الرباط في سبيل الله هو: حراسة الثغور، والثغور هي التي تكون بين المسلمين وبين أعداء الإسلام وتحتاج إلى حفظ؛ لأن العدو لا يؤمَن غدرُه، ولا يؤمَن ضررُه، ولذلك لا بد من السهر في حماية الثغور، وهذا العمل من أجلِّ الأعمال وأحبِّها إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه)، أي: فيما سوى الثغر؛ لأن المرابط في سبيل الله عينه تحرس المسلمين، وتحرس عوراتهم وأعراضهم وأموالهم ودماءهم، فهو قائم على ثغر عظيم من ثغور الإسلام، فإذا سَهِرَت عينُه على هذا الثغر، فإن الله يحرِّمها على النار؛ فإن العين التي تسهر في حراسة الثغور، تُعْتَبر ساهرةً في مرضاة الله عز وجل، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل العيون باكية -أو دامعة- يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضَّت عن محارم الله)، قال العلماء: (كل العيون باكية، أو دامعة): إشارةٌ إلى بلائها وحزنها، (إلا ثلاثة أعين): إشارة إلى نجاتها وعظيم ما أعد الله لها من الثواب، فلا تبكي يوم القيامة ولا تحزن، وهذا يدل على أنه ينتظرها من الله مِن عظيم الثواب وعظيم الجزاء الخير الكثير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها).
وإنما يكون هذا الفضل الذي أعده الله للمرابط -وكذلك الفضائل التي وردت في الشهادة في سبيل الله عز وجل- لمن أراد وجه الله عز وجل، فلم يخرج من بيته للجهاد رياءً ولا سمعةً ولا تفاخراً، ولا حميةً عن نفسه، ولا عن أهله، ولا عن داره وبلده، وإنما خرج لله وفي الله، (قالوا: يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل ليُرَى مكانَه، والرجل يقاتل للمغنم، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ -أي: أيُّهم يكون له الفضل الذي ذكرته للمجاهد في سبيل الله؟ - فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فخص قوله: (في سبيل الله) بقصد وجه الله سبحانه وتعالى.
فإذا ذكر الرباط وفضله، وما فيه من الخير والأجر والثواب، فإنما هو لمن أخلص، وأراد وجه الله سبحانه وتعالى، وأما مَن فعل ذلك حميةً، أو من أجل أن يُرَى مكانَه، أو ليثني عليه الناس، فإنه يتعجل حظَّه في الدنيا، فإذا وافى الله عز وجل، لم يوافِه بشيء، وفي الحديث: (أن العبد إذا أتى يوم القيامة بحسناته، قال الله عز وجل له: اذهب وخذ أجرك ممن عملت له) فالله سبحانه وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه، وفي الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي غيري، تركته وشركه)، وقال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:١١٠].
فالرباط له هذا الفضل العظيم، إذا أخلص الإنسان فيه النية.
وإذا تأمل المسلمُ الرباطَ، وجد فيه حفظ الثغور، ولذلك قال بعض العلماء فتفاضل أنواع الجهاد، حتى إن بعضهم يقول: إن حراسة الأنفس وتأمين السبل، قد يفضُل على جهاد الطلب؛ لأن الجهاد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: جهاد الطلب.
والقسم الثاني: جهاد الدفع.
فأما جهاد الطلب: فهو الذي يُطْلَب فيه العدو في أرضه، ويغزو المسلمون فيه الكفارَ في أرضهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعَلَ الصحابة مِن بعده، والسلف الصالح مِن بعدهم.
وأما جهاد الدفع: فهو أن يدهم العدو بلاد المسلمين فيدفعونه، وهذا يسمى جهاد الدفع.
فالرباط يعين على جهاد الدفع، وقد وردت فيه الفضائل، حتى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن المرابط إذا مات في رباطه أجرى الله عز وجل عليه الأجر إلى أن تقوم الساعة) فله أجره وثوابه إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وهذا لعظيم بلائه، ومن هنا قال العلماء: من سعى في حراسة المسلمين أثناء نومهم وحرس أعراضهم أو كان يعس في الليل، فإنه لا يبعُد أن ينال من الأجر ما هو قريب من الرباط؛ لأن مثل هذه الثغرات التي يخاف الناس فيها على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم بلاؤها عظيم، ومن هنا كان بعض السلف ويُروَى عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه كان يرى أن تأمين السبل للحجاج والمسافرين خوفاً ممن يقطع الطريق عليهم أفضل من جهاد الطلب وذلك لعظيم البلاء فيه.
وقوله: (وتمام الرباط) الرباط ينقسم إلى قسمين: الرباط الكامل والتام: وهو أربعون يوماً، وقد جاء فيه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تمام الرباط أربعون يوماً) فمن رابط أربعين يوماً فقد تم رباطه، وينال فضائل الرباط التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حسنه بعض العلماء رحمهم الله.
و (تمام الرباط أربعون يوماً)، أي: أنه إذا رابط في الثغور أربعين يوماً، فإنه ينال هذه الفضيلة -أعني: فضيلة الرباط- فإذا زاد فوق ذلك فإنه يكون فضلاً وزيادةً له في الأجر، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من مات مرابطاً في سبيل الله عز وجل، فإن الله يؤمِّنه من الفتان، أي: أنه يؤمَّن من فتنة القبر، وهذا من أعظم ما أعد الله عز وجل له حيث يحفظ من فتنة القبر، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الشهيد: (هل يفتن في قبره؟ فقال -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه: كفى ببارقة السيوف فتنة له) أي: كفى أنه قتل في ذات الله جل جلاله، فإن هذا من أعظم الشهادة له بأنه مؤمن بالله عز وجل واليوم الآخر؛ لأنه باع نفسه لله وآثر ما عند الله على الدنيا.