[حكم الكلام أثناء خطبة الجمعة]
قال المصنف رحمه الله: [ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا له أو لمن يكلمه].
هذا إشارة إلى عظيم شأن خطبة الجمعة وصلاتها، فقد عظمها الله تعالى حيث أمر سبحانه وتعالى بالسعي إليها، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:٩]، ووصفها بكونها ذكراً له سبحانه وتعالى، وهذا يتضمن التعظيم والإجلال لهذه الموعظة والخطبة.
كما عظَّم شأنها حينما عُدَّ المتكلم أثناء خطبة الخطيب لاغياً، ومن لغا فلا جمعة كاملة له، ولذلك ينقص أجره بكلامه إذا لم يكن معذوراً في ذلك الكلام كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والسبب في هذا واضح، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل للإنسان في جوفه قلبين، فإذا انشغل وتكلَّم بأي شيء خارج عن الخطبة، ولم يكن متصلاً بالخطيب فإن هذا مظنة لأن يشغل عن الكلام والموعظة، ومظنة لأن يشغل غيره، ولذلك مُنِع أن يكلم غيره، أو ينشغل بشيء كمس الحصى، ونحو ذلك مما يصرف قلبه عن التأثر والإقبال على الخطيب، وهذا كله يؤكد أن مقصود الشرع الانتباه لهذا الخطيب.
وفي هذا دلالة على فضل العلم، فقد قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: من فضائل العلم أن ترى الخطيب يوم الجمعة وقد رقى على أكتاف الناس، وما رفعه إلا فضل الله سبحانه وتعالى، ثم العلم الذي تعلم، ولذلك يؤمر الناس بالإنصات له والسماع له، وأعظمهم أجراً في الجمعة من تأثر بكلامه وأتبعه بالعمل.
فلذلك يُنهى عن الكلام، فلا يتكلم مع أحد حتى ولو كان الكلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)، فقولك لصاحبك والإمام يخطب: (أنصت) أمر بمعروف، والأمر بالمعروف واجب، ومع أنك إذا أمرته بالإنصات حصلت المصلحة للجماعة، فإذا كنت مع كونك آمراً بهذا الواجب تُعتبر لاغياً، فمن باب أولى إذا انصرفت إلى شيء آخر.
ومن هنا أخذ العلماء دليلاً على أنه لا يُشمَّت العاطس، فلو عطس العاطس وقال: (الحمد لله) لا تشمِّته؛ لأنه إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع كون مصلحته تنفع الناس في سماع الخطبة يُعد من اللغو، فمن باب أولى وأحرى ما انفك عن ذات الجمعة وذات الخطبة، وبناءً على ذلك قالوا: لا يشمت العاطس، ولا يرد السلام، كما لو كان في فريضة.
وأكدوا ذلك فقالوا: لمسنا من الشرع أن الخطبتين كأنهما قائمتان مقام الركعتين الأوليين من الظهر، ولذلك أُمِر بالسعي للجمعة بعد النداء الثاني، وكذلك أمَر النبي صلى الله عليه وسلم بالإنصات والإقبال على الخطيب، قالوا: هذا يؤكِّد أنه في حكم المصلي، ولذلك لا يرد السلام، ولا يشمِّت العاطس.
فقوله رحمه الله: [ولا يجوز الكلام] أي: للمأموم إذا جلس أثناء خطبة الخطيب، ويبتدئ هذا الحظر من ابتداء الخطيب في الخطبة، أما لو سلَّم أثناء سلامه، أو أثناء الأذان الثاني، أو أثناء جلوسه بين الخطبتين فلا حرج.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يتكلمون وعمر جالس على المنبر، بعد سلامه أثناء أذان المؤذن، وكذلك كانوا يتكلمون بين الخطبتين.
إلا أن الكلام بين الخطبتين ضيَّق فيه بعض العلماء، فقالوا: والأولى والأحرى أن يشتغل بما هو فيه من ذكر الله عز وجل، خاصة وأن بعض العلماء يرى أن بين الخطبتين مظنة أن تكون ساعة إجابة.
فقوله: [لا يجوز الكلام] أي: لا يتكلم مع غيره، ولا يجيب غيره ولو كان بذكر الله.
واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الخطيب، أو أمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفوا كذلك إذا ذكر المأموم الله عز وجل أثناء الخطبة: فقال بعض العلماء: إنه يجوز للمأموم أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يؤمِّن ولا حرج عليه في ذلك.
والسبب في هذا أنهم يرون أن المأموم إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حكم الذاكر، وكأنه متصل بالخطبة؛ لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وردت أثناء الخطبة.
ولذلك يقولون: هذا في حكم المتصل بالخطبة كما لو كلمه الخطيب، وهكذا إذا أمرهم الخطيب، وأكدوا بتأكُّد الصلاة عليه أثناء ذكره، فقالوا: يُشرع له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره.
والأقوى والأرجح ما ذهب إليه جمع من العلماء رحمة الله عليهم أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، والسبب في هذا واضح، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت) فإذا كان هذا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن باب أولى في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وما اعتذروا به محل نظر، لكن غاية ما يقال: إنه لو صلَّى أحد على النبي صلى الله عليه وسلم فلا حرج، ومن صلى عليه جهرة فلا حرج، ومن أنصت فلا حرج، لكن الأفضل أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، وهكذا التأمين، فإنه يؤمن في نفسه، فكلما دعا الخطيب أمن المأموم في نفسه على دعائه، وسأل الله أن يستجيب هذا الدعاء من قلبه، ويكون هذا في حكم التأمين، ويكون إنصاته لمكان الاشتغال بما هو أولى وأهم من الإنصات.
والذين يقولون: يؤمِّن ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الحديث يدل على هذا، وذلك أنه قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب)، وإذا دعا وشرع في الدعاء فليس بخطيب، إنما هو داعٍ وسائل.
ولكن رُدَّ هذا القول؛ إذ كيف يقال: إن من الأمور اللازمة للخطبة أن يدعو، ثم يقال: إن هذا ليس من الخطبة.
فهذا تعارض، فإنهم يعتبرون الدعاء من الأمور التي ينبغي للخطيب أن يحافظ عليها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم لورود حديث الاستسقاء، وذلك أن الصحابي سأله أن يستسقي فدعا، فدل على أنه كان من عادته أن يدعو آخر خطبته، قالوا: فإذا كان هذا فإنه من السنة والهدي.
فالذي يترجح ويقوى أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، وكذلك يؤمن على الدعاء في نفسه دون حدوث صوت أو كلام مسموع.
قوله: (إلا له) أي إذا خاطب الخطيب، أو كلَّمه الخطيب فأجاب فلا حرج، كأن يسأله الخطيب عن أمرٍ فيرد عليه، أو يسأل الخطيب أن يستسقي وأن يسأل الله عز وجل الغيث والرحمة بالناس، ودليله ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه أعرابي وهو يخطب فقال: ادع الله أن يغيثنا.
قال بعض العلماء: هو عباس بن مرداس السُّلمي رضي الله عنه وأرضاه، والرواية مبهمة في الصحيحين.
ووجه الدلالة أنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وكذلك إذا خاطبه الخطيب، كأن يقول له: أصلَّيت؟ -أي: التحية- فيقول: نعم، صليت، إذا كان قد صلى، أو يقول: لم أصلِّ، إذا لم يكن صلى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابي: (قم فاركع ركعتين).
فهذا يدل على مشروعية مخاطبة المأموم للإمام.
أيضاً: حديث أنس في الصحيحين أنه لما أُمطِر الناس سبتاً -أي أسبوعاً- جاء الأعرابي من الجمعة القادمة وقال: (يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل، فاسأل الله أن يصرف الغيث، قال: فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر)، فما أشار إلى ناحية إلا تفرقت.
فأخذ من هذين الحديثين حكمان: الحكم الأول: أنه لا حرج على المأموم أن يخاطب الإمام.
الحكم الثاني: لا حرج على المأموم أن يرُدَّ إذا سأله الإمام.
ومن هنا أخذ بعض العلماء مشروعية الفتح على الإمام إذا أخطأ في الخطبة، قالوا: لأنه في حكم المتكلم مع الإمام، فلو أن الخطيب قرأ الآية وأخطأ فيها شُرِع لك أن تنبهه على الخطأ وأن تفتح عليه، أو نسي تمام الآية، فتفتح عليه بما يُتمها.