[أحكام زكاة الدين]
قال المصنف رحمه الله: [ومن كان له دين أو حق من صداق أو غيره على مليء أو غيره أدى زكاته إذا قبضه لما مضى].
هذه المسألة مسألة يحتاج إليها الناس وتعم بها البلوى، وهي زكاة الديون، فأنت عندك مال أخذه منك إنسان، وحينئذٍ لا تبحث عن هذه المسألة إلا إذا أمضى حولاً كاملاً، أو مرّ حول مالك الأصلي والدين عند الشخص الذي أعطيته إياه، فلو فرضنا مثلاً: أنك أعطيت رجلاً مائة ألفٍ ديناً، أعطيته إياها في محرم، فهذا الدين لا يخلو من صور: الصورة الأولى: أن يحل أجله، فقلت له: هذا الدين توفيني إياه أو تعطيني إياه في نهاية رمضان، فهو سيوفيك المائة ألف قبل دخول الحول أو قبل بلوغ الحول، فإن كان أجل الدين قد دخل في الحول، فحينئذٍ تبحث عن حكم زكاته إذا لم يؤد الدين بعد تمام المدة، فأنت اشترطت عليه في نهاية رمضان أنه يعطيك المال، ولكن جاء رمضان وقال: لا أستطيع السداد، فبقي الدين عنده حتى شاء الله عز وجل ومضى إلى بداية حولك الذي هو محرم، فحينئذٍ إذا جاء محرم سألت: هل هذا الدين الذي لي على الرجل تجب علي الزكاة فيه، أو لا تجب؟ هذا الدين لا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن يكون الشخص الذي أعطيته الدين قادراً على السداد، وهو الذي يعبر العلماء عنه بالمليء، فإذا كان قادراً على السداد فحينئذٍ لا تخلو من حالتين: إما أن تستطيع مطالبته به ويعطيكه فحينئذٍ تجب عليك الزكاة؛ لأن الذي منعك من طلبه إنما هو الحياء، فقد يكون بينك وبينه مودة، أو قد يكون بينك وبينه معاملة فتترك الدين عنده، أو تريد أن يكون المال عنده؛ لأنه أحفظ لمالك؛ لأنه رجل أمين وتثق به، والسبب في وجوب الزكاة في هذه الحالة أن المال إذا كان على غني مليء بحيث لو طالبته أعطاك كأنه بيدك، فالمال وإن لم يعطِك إياه فإنه في حكم المال الذي بيدك، وتجب عليك زكاته، هذا إذا كان مليئاً وكنت قادراً على مطالبته ولا يماطل؛ بل يعطيكه في أي وقت تطلبه، ففي هذه الحالة يجب عليك زكاة المال، ووجه وجوبها أن المال وإن كان عند المدين، لكنه في حكم المال الذي بيدك، وعلى هذا الأصحاب فيما بينهم من مودة ومجاملات ربما يتركون الأموال عند بعضهم، وربما يغلبه الحياء عن مطالبته، فإذا كان الشخص تستطيع مطالبته ويوفيك عند المطالبة وهو قادر، فعليك زكاة مالك؛ لأنه وإن كان ديناً، ففي حكم المال الذي في يدك، هذه الحالة الأولى.
الحالة الثانية: إذا حلّ الأجل أن يكون عاجزاً على السداد، وعدك نهاية رمضان وجاءت نهاية رمضان، ولكنه لم يستطع السداد؛ لفقره وعجزه، فإذا كان فقيراً أو عاجزاً عن السداد أو طرأت له ظروف، ولكنه لا يستطيع أن يعطيك، فحينئذٍ للعلماء قولان: منهم من يقول: عليك زكاته، فتجب عليك الزكاة في كل سنة؛ فلو بقي عنده الدين خمس سنوات؛ عليك زكاة خمس سنوات، ففي كل سنة تحسب هذا المال سواء كان على فقير أو غني لا يفرقون، ويجب عليك أن تزكي، هذا هو القول الأول.
القول الثاني أنه إن كان عاجزاً عن السداد ولو طالبته بالدين لا يستطيع أن يوفيكه، فإنه لا تجب عليك زكاة المال، وهذا هو الصحيح؛ لأن المال غير موجود، وهو في هذه الحالة في حكم المفقود؛ فهو ليس بيدك، ولا تجب عليك زكاته، وإنما تنتظر، فلو جلس عشر سنوات أو عشرين سنة أو ثلاثين سنة، وبعد ثلاثين سنة جاء يوفيك فتزكيه لسنة واحدة، وبذلك أفتى علي وعائشة وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع؛ لأنه لم يصل المال إلى يدك إلا في تلك السنة، واليقين أنك مطالب بتلك السنة وغيرها شك؛ لأن المال كان غير موجود، وحينئذٍ لا تجب عليك الزكاة للسنوات التي مضت، هذا إذا كان عاجزاً عن السداد.
الخلاصة لهذه المسألة: أنه إذا حلّ الأجل وكان عاجزاً عن السداد، ولا تستطيع أن تأخذ المال منه، فحينئذٍ لا تجب عليك الزكاة، ثم ننظر؛ فلو وفاك بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة، فلا تجب عليك إلا زكاة سنة واحدة فقط وغيرها لا تجب؛ لأن المال في حكم المفقود، وهذا الرجل الذي هو معسر -ولا يستطيع السداد طيلة السنوات التي كان المال في ذمته- لم يكن المال موجوداً عنده، ولا تجب زكاة المال المفقود، وحينئذٍ لا تجب عليك إلا زكاة سنة واحدة.
فإذا قبضت المال منه ولو بعد عشر سنوات أو عشرين سنة تزكيه لسنة واحدة، فإذا كان المدين غنياً بَيَّنَّا حكمه، وإذا كان فقيراً بَيَّنَّا حكمه.
الحالة الثالثة: أن يأتي الأجل ثم تطالبه وإذا به قادر على السداد ولكنه يمتنع، فيكون مليئاً غنياً ولكنه يماطل، وهذا ما يسميه العلماء بالمماطل -الغني القادر على السداد المماطل- فلا تخلو حينئذٍ في هذا المماطل من حالتين: إما أن تستطيع أن تقهره وتأخذ الحق منه سواء عن طريق القضاء أو عن طريق غيره من الناس ممن تستطيع أن تكلمه حتى يأخذ بحقك منه، فتجب عليك الزكاة؛ لأنه وإن كان مماطلاً لكنه في حكم من أنت قادر عليه والمال موجود عنده، فكونك تقصر في أخذ المال يلزمك بزكاته، هذا إذا امتنع عن السداد، وكان عندك قدرة على أخذه، فحينئذٍ يجب عليك زكاته.
أما لو امتنع، ولا تستطيع أن تأخذه منه؛ لقهره إياك، أو تخشى منه الضرر والأذية، أو ليس عندك شهود على المال ولا تستطيع إقامة القضاء عليه، فحينئذٍ تنتظر ولو مائة سنة، فإن قدرت ولو بعد مائة سنة تزكيه لسنة واحدة؛ لأنك ما قدرت على مالك إلا في تلك السنة، ولا تجب عليك إلا زكاة سنة واحدة، وأما بقية السنوات فالمال وإن كان مالك لكنه في حكم المعدوم لعدم القدرة عليه.
فإذا كان قادراً على السداد ويمتنع من السداد، فلا يخلو: إما أن تقدر على قهره، فتجب عليك الزكاة، وإما ألا تستطيع قهره، فحينئذٍ لا تجب عليك الزكاة إلا لسنة واحدة على التفصيل الذي ذكر.
الحالة الرابعة: أن يكون المدين قادراً على السداد لكنه ينكر ويجحد مالك، وهذا يسمى بالجاحد -مثلاً: جاء الأجل وهو رمضان فقلت: يا فلان وفني حقي، فما بيني وبينك هو نهاية رمضان، فقال: لا شيء لك عندي، أو قال: ليس لك مال عندي- يقول: ليس لك عندي شيء، فالجاحد إذا جحد مالك يعتبر في حكم الغاصب، فلا تخلو من حالتين أيضاً: الحالة الأولى: أن تكون لديك بينة أو شهود أو تستطيع قهره وقسره على إعطائك الحق، فتجب عليك الزكاة؛ لأن المال في يدك.
الحالة الثانية: ألا تستطيع إقامة القضاء عليه فيه، لخوف ضرر عليك أو لأنه غصبه بقوة وقهر، فحينئذٍ لا تجب عليك الزكاة، وتنتظر إلى أن تتمكن، فمتى ما تمكنت من مالك المغصوب أو مالك المجحود تجب عليك الزكاة لسنة واحدة؛ لأن المال في حكم المفقود، وإنما ملكت مالك حينما قدرت عليه، فإن لم تقدر عليه فإن الله لا يكلفك بزكاته.
هذا حاصل ما يقال زكاة الدين إذا حلّ الأجل، فإذا حلّ الأجل فإن كنت قادراً، على أخذ المال وأخرّت المال عنده لمودة أو ثقة، وجبت عليك الزكاة، وإن كان غير قادر فلا تجب عليك الزكاة، وتنتظر حتى يسدد فتزكي لسنة واحدة، وإن كان قادراً على السداد ومطل أو جحد أو غصب، فإن كنت قادراً على إقامة الحق عليه، فتجب عليك الزكاة، وإن كنت غير قادر على إقامة الحق عليه، فلا تجب فيه الزكاة.
إذاً: فقه المسألة في القدرة على المال، فإن كان المال كأنه بيدك وجبت الزكاة، وإن كان المال كأنه مفقود، أو كأنه غير موجود لعوزٍ وضيق يد أو جحدٍ مع عدم القدرة على المطالبة بالحق، فحينئذٍ لا زكاة عليك، ومتى ما سددك أو قدرت على حقك زكيته لسنة واحدة هذا حاصل ما يقال في الديون إذا حلّ أجلها.
الصورة الثانية: ألا يحل الأجل، يأخذ منك الدين لعشر سنوات، فإنه في خلال العشر سنوات ليس من حقك أن تطالبه بهذا الدين، فالمال ليس بمالك، أو كأنه ليس بمالك ويعتبر مالاً له، وقد يأخذ منك المائة ألف أو المائتي ألف وينفقها، فلا تكون موجودة، فأنت تستحق المطالبة بعد عشر سنوات، فلا تبحث ولا تسأل عن زكاة هذا الدين إلا بعد العشر سنوات، فإذا مضت العشر سنوات، وحل الأجل، رجعنا إلى التفصيل الذي ذكرناه.
إذاً: عندنا في الدين حالتان: حالة يحلّ فيها الأجل ونفصِّل فيها بين كون المال في حكم المال الذي في اليد؛ لقدرةٍ ومحبة ومودةٍ، فحينئذٍ تجب الزكاة، أو يكون في غير حكم المال الذي في اليد؛ لعوزٍ أو جحودٍ وعدم قدرة على مطالبة، فحينئذٍ لا زكاة، فإن قدرت زكيت لسنة واحدة.
وأما إذا لم يحلّ الأجل، فالمال ليس لك؛ لأنك قد تنازلت عن هذا المال، وزكاته كونك قد أدنته وأعطيته إياه وفرجّت كربته، فذلك من زكاة المال، وهو من الخير الذي جعله الله لك في هذا المال، بل قال بعض العلماء: إن مسامحة المديون والعفو عنه والتيسير عليه والإنظار له من أفضل القربات وأحبها لله عز وجل، وقد جاءت الأحاديث في الترغيب فيها، والله يقول في كتابه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:٢٨٠]، (فنظرة) أي: فانتظار، (إلى ميسرة) أي: إلى اليسار والغنى والقدرة على السداد، وعلى هذا فإن الديون لا يبحث فيها إلا إذا حلّ أجلها، وكان الذي عليه الدين قادراً على السداد وأنت تستطيع مطالبته بالدين، على التفصيل الذي ذكرناه.