[الشرط الثالث: أن يؤمن التعدي في القصاص على الجاني]
قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أن يؤمن الاستيفاء أن يتعدى الجاني].
لو قال: (أن يعتدى على الجاني) لكان ممكناً، لكن مراده: أن يؤمن في القصاص التعدي، فالأصل أن يؤمن الحيف، فبعضهم يقول: أن يؤمن الحيف، وبعضهم يقول: أن يؤمن الاعتداء والزيادة، والمراد بهذا: أن نأمن عند حكمنا بالقصاص الزيادة على الحق.
وتوضيح ذلك: أن القاتل يُقتل، ولا يُقتل معه غيره، فلا يؤخذ بجريمته من لا جريمة له، وتبرز هذه الصورة وتتضح أكثر شيء في المرأة الحامل، ففي بطنها الجنين الذي لا ذنب له، وحينئذٍ لو قتلناها قتلنا نفسين بنفس واحدة، والله عز وجل يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:١٧٨]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:١٢٦].
وبناءً على ذلك: لا يقتل هذا الجنين؛ لأنه لا ذنب له، فينتظر إلى وضعها، فذكر العلماء هذا الشرط تنبيهاً على هذه المسألة: أنه لا تقتل المرأة الحامل حتى تضع ما في بطنها، والأصل في ذلك في الحدود: قصتا المرأتين اللتين زنتا وأتي بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما محصنتان، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولي المرأة أن يبقى معها حتى تضع ما في بطنها ثم يأتي بها إليه، وفي الثانية قال: حتى ترضعه؛ لأنه لم يوجد من يقوم به ويرضعه، فهذا يدل على أنه لا يجوز التعدي على المرأة الحامل؛ لأن الجنين لا ذنب له، ثم ينظر إذا وضعت ما في بطنها أمرت بسقيه اللبأ؛ لأنه يكون به أوده وحياته، ولا بد له منه، وهو اللبن الذي يكون بعد الولادة، ثم ننظر في رضاعته، فإن وجدت امرأة بدلها ترضعه وتقوم عليه أُخذت أمه واقتص منها وقتلت، وإن لم يوجد امرأة ترضعه والولد متعلق بأمه لا يريد إلا أمه ولا يرتضع إلا من أمه، مثل ما وقع لموسى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:١٢]، فبعض الأولاد فيهم حساسية لا يمكن أن يقبل إلا ثدي أمه، فإذا أبى أن يقبل إلا ثدي أمه، فإنه في هذه الحالة لو قتلنا أمه لقتلناه معها؛ لأنه سيمتنع من الرضاعة وسيموت، أو يتضرر في صحته، فحينئذ يكون قد حصل القصاص من الجاني وزيادة، وهي زيادة الضرر على الجنين، فننتظر إلى أن ترضعه وتفطمه، ثم بعد ذلك يُقتص من هذه الأم.
إذاً: الشرط أن يؤمن الحيف، كما يعبر بعض العلماء، وأن تؤمن الزيادة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:٣٣]، فقتل الأم مع جنينها إسراف في القتل؛ لأن معنى (لا يسرف في القتل) أي: لا يزيد على قتل القاتل، وأخذ الجاني بجنايته دون أن يستتبع من لا حق في قتله، أو يستتبع في الحق الضرر به كالجنين بعد وضعه.
ومن هنا فجمهرة العلماء رحمهم الله تعالى نصوا على أن الجنين لا يقتل مع أمه، فلا تقتل الأم وهي حامل بجنينها، حتى لا يكون إزهاقاً لنفسين بنفس واحدة، فليس بالعدل أن تُقتل النفس البريئة مع النفس القاتلة في مقابل نفس واحدة، هذا هو وجهه.
فيشترط الأمن من الحيف، والأمن من التعدي على الجاني، وذلك التعدي على الجاني بقتل ولده معه ونحو ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [فإذا وجب على حامل أو حائل فحملت لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ].
قوله: (إذا وجب)، أي: القصاص على امرأة في بطنها جنينها، فهذا لا إشكال فيه مثل ما ذكرنا.
فلو أنها كانت حائلاً قبل الحكم، فعند جنايتها كانت حائلاً، ثم جامعها زوجها، وحملت، وظهر الحمل بعد حكم القاضي بالقصاص والاستيفاء، وثبت عند القاضي، وطالب أولياء المقتول واستحق القصاص، ولم يبق إلا التنفيذ، وعند التنفيذ وجدت حاملاً، فإنه لا يقتص منها، فليست العبرة بحالها أثناء القتل؛ لأنها أثناء القتل كانت حائلاً، فالعبرة وجود الضرر والتعدي أثناء القصاص والاستيفاء، ويستوي في هذا أن تكون حاملاً في بداية حملها، أو أن تكون حاملاً في نهاية حملها، أو وسطاً بين ذلك؛ لأن العلة هي أن لا يتعدى في القصاص، وهذا يشمل هذه الأحوال كلها.
وإذا قالت: إني حامل، فقال أولياء المقتول: ليست بحامل، بل هي حائل، عرضت على أهل الخبرة، فإن قالوا: إنها حامل انتظرت، وإن قالوا: إنها حائل اقتص منها، والآن في زماننا يمكن اكتشاف ذلك والتثبت منه على وجه بين.
قال رحمه الله تعالى: [ثم إن وجد من يرضعه وإلا تركت حتى تفطمه].
قوله: (ثم إن وجد من يرضعه) أي: يرضع هذا الصبي الذي وضعته، فإن وجد من يرضعه فلا إشكال، وحينئذٍ يدفع إليها وترضعه، وإن لم توجد من ترضعه، أو وجدت امرأة ترضعه ولكنه لا يقبلها، ولم يرض بها، فحينئذٍ وجودها وعدمها على حدٍ سواء فينتظر حتى تفطمه.
قال رحمه الله تعالى: [ولا يقتص منها في الطرف حتى تضع].
ذكر المصنف رحمه الله تعالى القصاص في الطرف وألحقه بالقصاص في النفس في هذه المسألة؛ لأن المرأة الحامل إذا قطعت يدها ففي الغالب أنها تسقط جنينها، ولا تتحمل، بل تسقط ما هو أخف وأقل من هذا، وبناءً على هذا ينتظر إلى أن تضع الجنين، وبعد أن تضع الجنين يقتص منها، وهكذا لو كانت زانية وحملت من الزنا، فإذا كانت بكراً وأريد جلدها انتظر حتى تضع، وإن كانت محصنة ففي هذه الحالة ينتظر وضعها للجنين ولو كان من الزنا، ثم بعد ذلك يقام عليها الحد.
والقصاص في الأطراف وإقامة الحدود حكمهما حكم القصاص في النفس، فالمسألة تدور حول أصل واحد، بل إن الحد وتنفيذ الحد هو الأصل في تأخير تنفيذه على المرأة الحامل، كما ذكرنا في قصة المرأتين اللتين زنتا، والحديث في أمرهما صحيح وثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جرى عمل السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وذكر المصنف رحمه الله تعالى مسألة القصاص في الأطراف من باب التنبيه بالنظير على نظيره، وهذه يسميها العلماء: مسائل النظائر، وإذا جاءوا يبحثون يقولون: المظانُّ، فهناك مسائل تذكر تبعاً ليست في أصل الباب؛ لأن الباب القصاص في النفس.
وقد يقول قائل: كان ينبغي أن يؤخر مسألة القصاص في الأطراف من الحامل إلى باب القصاص في الأطراف، ولكن المصنف ذكر هذا من باب المظان، ومن هنا يعتني العلماء بذكر المسائل بأقربها شبهاً، وتعرف هذه بالمظان، بمعنى: تذكر في أقرب المواضع وتُجمع المسائل مع أنها ليست تحت الباب.
ولذلك قال رحمه الله تعالى: [والحد في ذلك كالقصاص].
وهذا هو الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من تنفيذ الحد لخوف الضرر على الجنين، وهو أصل المسألة، والحد في ذلك كالقصاص؛ بل هو أصل مسألة القصاص، فلو شربت الخمر -والعياذ بالله تعالى- امرأة حامل، أو زنت، أو قذفت، فإنه ينتظر إلى أن تضع ما في بطنها، ثم يقام عليها حد الزنا وحد القذف وحد الخمر، وهكذا لو سرقت فلا تقطع يدها، بل ينتظر حتى تضع ما في بطنها، ثم بعد ذلك تقطع يدها، للعلة التي ذكرناها.