النقطة الأخيرة التي أحب أن أنبه عليها: ينبغي على طالب العلم أن يشعر أن هذا العلم قريب إلى قلبه، حتى ولو كانت المسألة غريبة فهي لا تبتعد عن العلم، يعني: من الأمور التي يحرم بها طالب العلم ضبط العلم، أن يحس أن المسألة غريبة وعجيبة وأنها بعيدة عن حاله وأنها فلا يزال يبتعد عنها فتبتعد عنه، وحينئذٍ يحرم درجتها وأجرها، فيجب على طالب العلم -خاصة المتفرغ لطلبه- أن يجعله شيئاً عظيماً فرض عليه أن يتقنه، وكم من مسائل تعلمناها ما كنا والله نظن أننا نسأل عنها فضلاً عن أن نبتلى بها، فإذا بنا في يوم من الأيام تقع لنا هذه المسألة ونحتاج إلى جوابها لأنفسنا، وإذا بنا نبتلى بالسؤال عنها أمام الناس وأمام الأمة فنفع الله بها ما شاء.
لا تبتعد عن العلم، فالعلم هو بذاته بعيد عنك؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الجنة محفوفة بالمكاره، فكيف إذا ابتعد الإنسان عنه؟ ولو حاول الإنسان أن يقترب منه تباعد العلم عنه حتى يعظم أجره، ولذلك إذا أردت أن تحفظ سورة من القرآن ربما تجلس الشهور وأنت تريد إتقانها وضبطها حتى تصل إلى ما تريد، يمتحن الله بذلك صبرك وحبك، فإذا وفقت لأكمل الدرجات وأفضلها أعطاك الله حفظها على أتم الوجه وأكمله.
الشاهد من هذا: ألا نشعر أن مسائل هذا العلم بعيدة عنا، والله إن الأمة بخير ما اعتزت بهذا الدين، والاعتزاز بالدين أول ما يبدأ بالعلماء وطلاب العلم، لا تقل: هذه مسائل غريبة، ولا تقل: الفقهاء يهتمون بأشياء غريبة أبداً، تدرس المسائل وتتقنها؛ لأنها كلها مبنية على الكتاب والسنة، وعلى أصول صحيحة اقتضاها علماء الشريعة والأمة، فتصحب لهذه المسائل في قلبك المحبة والإجلال والرغبة؛ لأنك إذا رغبت شيئاً أتقنته، وإذا أحببت شيئاً طلبته، والسبب الذي يجعل طالب العلم يسأم ويمل ويعرض عن مجالس العلم أو يسأم من مجالس العلم هو عدم شعوره بعظم هذا العلم.
ولما أحس الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بعظم شأن الوحي -كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم- كانوا يجلسون في العشر الآيات لا يتجاوزوها حتى يتعلموها، ويعلموا حلالها وحرامها ويعملوا بها، فأعطوا العلم والعمل، وبورك لهم فيه، يقفون عند عشر آيات وهم جهابذة الحفظ والفهم، وأهل اللسان والبيان! وكان الرجل منهم يعرف مدلولات الكلام والألفاظ عامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، وظاهره وباطنه، ومفهومه ومنطوقه، كل هذا كان عندهم بين أيديهم كالشيء السهل المنال، ومع ذلك كانوا لا يتجاوزن العشر الآيات، فلما أتقنوا العلم على أتم وجوهه، وصبروا على منازله وأحواله، وصابروا بورك لهم في العلم.
فينبغي علينا -وبخاصة طلاب العلم- أن نحب هذا العلم، وأن نعتز بهذا الدين، والله لو كنا في أصعب مسألة من مسائل الحيض والنفاس فهو ديننا، وهي شريعتنا التي بها نعتز وبها نفتخر، وحينما نرى أهل الدنيا وهم يتعلمون الكيمياء والفيزياء ويصبرون ويفتخرون، وتجد الهندسي يفتخر بهندسته، والكهربائي يفتخر بعمله، وكلاً يتباهى ويسمو ويعلو بما عنده من حطام الدنيا، فكيف وأنت تشتري سلعة الله الغالية؟! كيف بمن يطلب العلم؟! كيف بمن يطلب الوحي؟! فينبغي علينا أن نعتز بكل مسألة وبكل حكم وبكل شرع؛ لأنه {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:٤٢].
فلما كان السلف الصالح رحمهم الله والتابعون لهم بإحسان على هذا النحو من استشعارهم لهذا العلم المبارك، فأعطوه خالص حبهم وصادق ودهم سلو بهذا العلم، فللعلم سلوة والله! تنسي الإنسان لذة النفس والأهل والمال والولد، من أعطي العلم كله بورك له في هذا العلم، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل، وأن يبارك لنا فيما تعلمناه وعلمناه، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم.