للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم صبغ الشعر بالسواد]

السؤال

ما حكم صبغ الشعر؟ وإذا كان الشعر غير أسود، فهل يجوز صبغه باللون الأسود؟

الجواب

صبغ الشعر إذا كان لسبب أذن به الشرع كتغيير الشيب فهو مشروع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأتاه والد أبي بكر رضي الله عنهما، فقال عليه الصلاة والسلام: (أثقلتم على الشيخ، هلا تركتموه حتى نأتيه! فإذا برأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال عليه الصلاة والسلام: غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد).

ففي هذا الحديث فوائد منها: إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لكبير السن، وهي سنته وهديه، وحفظه لحق الصاحب والخليل والمحب؛ لأن أبا بكر كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحبه النبي صلى الله عليه وسلم محبة دون الخلة، وأحبه محبة عظيمة، فلم يكن في الخلق أحب إليه منه عليه الصلاة والسلام، وهو صدق في محبته وخلته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرم عليه الصلاة والسلام والده وقال: (أثقلتم على الشيخ)، وهذا يدل على أن الأخيار والصالحين إذا رأى أحد منهم والد صديقه يكرمه ويجله ويحترمه ويقدره ويوقره، وهل الإسلام إلا الأدب ومكارم الأخلاق ومحامدها؟ فهذا نبي الأمة صلى الله عليه وسلم يدخل إلى مكة -في اليوم الذي أعز الله فيه جنده، ونصر عبده -متواضعاً لله عز وجل، ويقول: (أثقلتم على الشيخ)! يعني: لماذا جئتم به إلينا؟ نحن الذين نأتيه، وقال ذلك كما قال بعض أصحاب السير: تطييباً لخاطر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وحفظاً لحق كل من يعين على هذه الدعوة، فكل من يكون معك في هذه الدعوة معيناً تحفظ له الحق في نفسه وأهله وإخوانه وقرابته، وقال: (هلا تركتموه حتى نأتيه)؛ لأنه كبير السن، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم إلا كريماً، وكان كرمه على الوفاء والتمام.

ولذلك نحن اليوم في غربة، فلا احترام للكبير، ولا توقير للشيبة والمسن، تجد كبير السن يدخل المسجد ويخرج وقد لا يجد من يسلم عليه! وإذا وجد من يسلم عليه قد لا يجد من يوقره! فيسلم عليه كما يسلم على عامة الناس! والأدهى والأمر إذا استخف به، والإنسان لا يسمو إلى الكمالات إلا إذا عاش كما يعيش الغير، لو أن الواحد منا فكر في كبير السن وهو في آخر عمره، فإنه قلّ أن يجد أخاً من إخوانه، وقلّ أن ترى عينه صديقاً من أصدقائه، فكلهم قد أسلموا أرواحهم وصاروا إلى الله جل وعلا، وقد لا يخرج من بيته إلا إلى مسجده أو إلى تشييع حبيب أو عيادة صديق؛ لأنه قد فارقه إخوانه.

اثنان لو بكت الدماء عليهما عيناك حتى يأذنا بذهاب لم يبلغ المعشار من حقيهما فقدُ الشباب وفرقة الأحباب أصعب الأشياء وأمرها فراق الأحبة وفراق الأصدقاء والخلان، فقلّ أن يجد من يأنسه، وقل أن يجد من يُدخل السرور عليه، حتى إنه لربما عاد إلى بيته فوجد كل شيء غريباً عليه، حتى زوجته ربما تتغير عليه، ولربما تغير أولاده ضده، ويصبح كأنه بعيد يعيش في عالم غير عالمه، فما هو إلا في الذكريات، كأن لسان حاله يقول: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب يقول بعض العلماء: الناس يفهمون هذا البيت: (فأخبره بما فعل المشيب) أي: من الونى والضعف، ولكن أعظم ما فعل المشيب فراق الأحبة والأصحاب، ففقدهم له وقع في القلوب لا يعلمه إلا الله عز وجل.

ولقد رأينا هذا حتى في العلماء والأجلاء، وأذكر أن الوالد رحمة الله عليه مع صبره وجلده ما رأيته تأثر وساءت حاله وصحته إلا بعد فراقه لأحبابه الذين يعرفهم بالصدق والمحبة.

ففراق الأحبة صعب فمن الذي بحنانه وعطفه وإحسانه يسد هذا الفراغ؟ ولذلك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المكرمة والمأثرة الحميدة فقال: (إن من إكرام الله إجلال ذي الشيبة المسلم)؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا من يؤمن بالله واليوم الآخر، وقال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا)، فكل ذي شيبة مسلم موقر، فهذا هديه عليه الصلاة والسلام وسنته، فكان يكرم الكبير، ويعطف على الصغير، فيسلم عليه ويرحمه.

قال عليه الصلاة والسلام: (أثقلتم على الشيخ) ثم قال: (غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد)، ففيه دليل على مشروعية صبغ الشيب، وأن السنة أن يغير بغير السواد، مثل: الحناء والكتم، والكتم ضرب من الصبغ بين الأسود والأحمر، وهو معروف وموجود إلى الآن، فهذا السنة في تغيير الشيب.

أما لو كان شعر المرأة أو شعر الرجل أشقر فأراد أن يجعله أسود فلا يجوز؛ وما الدليل؟ من ناحية فقهية عندنا شيء يسمى الأصل، وعندنا مستثنى من الأصل، فالأصل عندنا أنه لا يجوز تغيير الخلقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواشرة والمستوشرة -ثم قال-: المتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)، فإذا خلق الله الشعر أحمر أو أشقر فليس من حق المخلوق أن يغيره؛ لأن الله خلقه على هذه الصفة، ولماذا ورد اللعن على تغيير الخلقة؟ قالوا: لأنها -أي المرأة- إذا قالت: لا أريده أحمر، كأنها لم ترض بقسمة الله لها، كما لو لم ترض بطول السن مثلاً، فكأنها لم ترض قسمة الله لها، ومن هنا تعرف سبب فورود اللعن، ورد اللعن ليس فقط لتغيير الشيء، وإنما ورد لمسألة عقدية وهي: عدم الرضا بخلقة الله عز وجل، والعبث بهذه الخلقة، ثم قال: (المغيرات لخلق الله)، فإذا كان الشعر على لون فلا يجوز تغييره إلى لون آخر إلا إذا كان شيباً فيغيره بغير السواد، خلافاً لمن قال: بجواز صبغه بالسواد، إلا أنه يستثنى من ذلك وقت الجهاد في سبيل الله، فقد رخص بعض أهل العلم رحمهم الله أن يصبغ الشيب بالسواد إرهاباً للعدو وتخويفاً له، وكثير من المحرمات استثنيت في الجهاد، ولذلك لما أخذ أبو دجانة السيف وتبختر في مشيته قال عليه الصلاة والسلام: (إنها لمشية يبغضها الله -هذا الفعل يبغضه الله- إلا في هذا الموضع)؛ لأن فيها كسراً لأعداء الله عز وجل، وإظهاراً لعزة الإسلام، فوافقت مقصود الشرع، بخلاف إذا تكبر وتجبر وعلا وطغى في غير هذا الموطن، فإنه يخالف مقصود الشرع، ويقع فيما حرمه الله سبحانه وتعالى.

وبناءً على ذلك فإذا كان الشعر يغير لشيب فلا إشكال، شريطة أن يكون التغيير بغير السواد، وأما إذا كان التغيير لغير الشيب فإنه محرم ولا يجوز فعله، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>