[استحباب ولاية أمر المريض لأحب الناس إليه وأصبرهم عليه]
يقول المصنف رحمه الله: [وإذا نُزل به سن تعاهد بلّ حلقه بماءٍ أو شراب].
قوله: (وإذا نزل به) أي: نزل به الموت، وللموت أمارات وتكون قبل سكرات الموت، ثم تفضي بالإنسان إلى السكرات، ثم تنتهي به إلى الممات، فمن أمارات الموت وعلاماته: أن يكون المرض ميئوساً منه، أو يكون مرضه من الأمراض التي لا يرجى شفاؤها، ولله عز وجل سنن كونية جعلها تدل على ما ينشأ أو يقع، فإذا كان هناك أطباء قرروا أن المرض الذي أصيب به المريض قد ثبت بالتجربة والعادة والاستقراء أنه لا يبقى صاحبه، فهذه من علامات الموت.
ومن العلامات التي تدل أن الإنسان سينتهي به مرضه -في الغالب- إلى الموت أن يشتد به المرض، أو يحصل له من الحوادث أو الوقائع ما يدل على أنه لا يرجى برؤه ولا يرجى بقاؤه، فهذه كلها من الأمارات التي تسبق الموت وتدل عليه.
فإذا كان الإنسان قد رأى علامات الموت، أو اطلع الأطباء على أن المرض الذي معه لا يرجى برؤه؛ فينبغي على الإنسان أن يتهيأ، وعلى أقرباء المريض إذا رأوا أن المرض لا يرجى برؤه، فعليهم أن يتركوا أمر المريض إلى أحب الناس إليه وأرفقهم به؛ وذلك لأن هذه الساعات الأخيرة من الدنيا يكثر فيها شكاية المريض، ويكثر فيها توجعه، ويكثرُ تفجعه وتألمه.
فإذا كان الذي يتولى أمره معروف باللطف والإحسان في المعاملة، فإنه يتسع صدره في تحمل هذه الأمور، ويكون أدعى إلى الرفق بالميت.
ولذلك نبه العلماء رحمة الله عليهم والسلف الصالح -منهم الإمام الشافعي - على أنه يستحب أن يترك أمر ولاية المريض في آخر حياته إلى أرفق الناس به، وقد يكون أرفق الناس به ابنه، وقد تكون إحدى بناته، وقد تكون إحدى زوجاته، وقد يكون أحد أقاربه من أبناء الأعمام أو أبناء الأخوال، فالشخص الذي يُعرف ارتياح المريض له، وكذلك حبه له وأنسه به، هو الذي يترك له القيام على شأنه.
ويُتأكد ذلك حينما تكون هناك الأسباب والعواقب الحميدة لهذه الولاية؛ منها: الرفق بالمريض وعدم التضجر والسآمة، بخلاف ما إذا وليه من هو دون ذلك، فإنه ربما يضجر ويسأم، فالمريض في شدة المرض إذا رأى السآمة والملل من الذي يليه وقع بين نارين، لا يدري أيصبر على مرضه فيكتوي بنار المرض، أم يبوح بسره أنه يحتاج إلى أمر فيكتوي بنار المذلة والمهانة والتضجر والسآمة، خاصةً إذا كان عزيزاً كريم النفس، فإنه ربما لو رأى الموت لا يسأل الناس؛ من شدة كرامة نفسه عليه وأنفته.
فينبغي أن يترك أمر ولاية المريض إلى أرفق الناس به، وألطفهم في معاملته وأحلمهم به، ويجب على المسلم أن يتقي الله في المريض، فإن المريض ممن يرحم ويستحق الرحمة؛ ولذلك لما سُئل أحد الحكماء العقلاء من العرب في الجاهلية: من أحب ولدك إليك، وأكثر عطفك عليه؟ قال: (الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ) فالمريض يحتاج إلى العطف والرحمة والشفقة.
وينبغي للإنسان مهما رأى من الأذية والضجر أن يتسع صدره، خاصةً إذا كان المريض أحد الوالدين، أو ممن له حق أو فضل كالعالم؛ لأن المريض أثناء المرض تضيق عليه الأرض بما رحبت، بل وتضيق عليه نفسه التي بين جنبيه، ومن شدة وطأة المرض قد لا يستطيع أن يترفق في أسلوبه ولا في كلامه ولا في معاملته، وقد يغلب عليه الجفاء، وقد يكون فظاً في كلامه وحديثه، فينبغي للإنسان أن يتسع صدره.