وقوله:(وقدَرَ بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله).
أي: وقدر على الأداء بلا ضرر؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، فلو قيل له: تعال واشهد، والذي سيشهد عليه ابن عمه، وهناك شهود آخرون غيره، فحينئذٍ لو جاء ليشهد فستقع فتنة بينه وبين بني عمه، وتقطع بسببها الأرحام، وقد يكون ابن عمه شريراً فقد يقتله، وقد يؤذيه، وقد يضر به وبولده، وفي بعض الأحيان تقع النعرات والمشاكل، وربما قد لا يُنكِح ولا يُنكَح، وهذا ضرر عليه وعلى أولاده، ولربما شُمِتَ به مع أنه على حق.
فإن كان به من الإيمان والقوة والصبر والجلد فلم يزده الله بذلك إلا عزاً، فمن أهان عبداً لله اتقى الله فيما اتقى فيه ربه جعل الله إهانته كرامة، وجعل الله ذله عزاً، وجعل الله منقصته كمالاً، ومن أراد أن يجرب فليفعل؛ لأنه ليس هناك أعظم من نقمة الله عز وجل ممن ظلم عبداً اتقى ربه، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:(من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، وجاءته الدنيا ذليلة صاغرة)، ومن هنا فمن حقه أن يمتنع إن خشي الضرر.
ولذلك فإن العلماء رحمهم الله في مسائل الضرر يقولون: إن الضرر قد يُتحمل إذا كان عند الإنسان صبر وجلد على البلاء، وعلى الفتنة والأذية، يقولون: فيجوز له أن يؤدي الشهادة؛ لكن بشرط أن لا يخاف الفتنة على نفسه؛ لأن من الناس من إذا تضرر ندم على ما فعل، وضعف إيمانه، وحينئذٍ فلا هو حصل على الأجر فيما مضى لندمه ورجوعه عما فعل، ولا هو سلمت له نفسه بحصول الضرر بعد ذلك، قالوا: وهذا هو معنى رد النبي صلى الله عليه وسلم على الذي قال: (إن من توبة الله علي أن أنخلع من مالي) يعني: أتصدق بكل مالي، فهو فارح بتوبة الله، فربما إذا انتهى فرحه ندم على تصدقه بجميع ماله، فيذهب عليه الأجر بالندم، فلا هو بقي له ماله، ولا هو ثبت له الأجر.
وهنا في الشهادة كذلك، فإذا كان الشخص يتحمل وعنده قوة إيمان وصبر وجلد فبها، وإلا فلا.
وقوله:(وكذا في التحمل) أي: إذا وجد الضرر على نفسه وأهله وماله جاز له أن يمتنع، والعلماء ذكروا من الضرر: قطيعة الأرحام، والفتنة، حتى قالوا: إن القاضي من حقه أن يؤخر تنفيذ الحكم إذا خشي أن تقع مقتلة، أو تقع فتنة، ولذلك قال الناظم: ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام فلا يجوز للحاكم أن يوقف الحكم، ولا أن يعطل الحكم، بل يجب عليه تنفيذه، وإذا أخر فإنه يأثم، فإذا تبين له الحق يجب عليه أن يحكم به، ولكن إذا خاف الفتنة أو الشحناء للأرحام، عدل إلى الصلح في القضية خوف وقوع ما هو أعظم.
والصلح يستدعى له إن أشكلا حكم وإن تعين الحق فلا ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام