[مقاصد الشريعة من إيجاب الدية والكفارة في قتل الخطأ]
وقتل الخطأ لا يتوفر فيه قصد إزهاق الروح، ولا قصد الجناية على المسلم، ومن هنا كان أخف أنواع القتل، ولكن الله عظم أمر الدماء، ومن حكمته سبحانه وتعالى أنه أوجب على القاتل خطأً أن يضمن النفس، فصار حقاً للآدميين، وأن يضمن حق الله في الكفارة؛ وهي عتق الرقبة، فإن لم يجد أو لم يستطع شراءها فإنه يصوم شهرين متتابعين توبة لله عز وجل.
والحكمة في هذا ما ذكر بعض أهل العلم: أن كل إنسان يقتل خطأً لا يقتل إلا بإهمال، وأنه ما من نفس مؤمنة تزهق، وتقتل خطأً إلا وهناك تقصير وإهمال من القاتل، وبناءً على ذلك وجبت الكفارة صيانة للأنفس، وحتى يحتاط الناس فيما يوجب الزهوق، فلا يتساهلون فيه، ولا شك أن في ذلك خيراً كثيراً للعباد، الله عز وجل أعلم وأحكم بها.
وقد أجمع العلماء على أنه لا يقتص بقتل الخطأ؛ بمعنى: أنه لا يوجب القصاص، وأجمعوا على أنه يوجب الدية كاملة مسلمة إلى أهل المقتول المسلم المعصوم الدم، بالإضافة إلى الكفارة التي هي عتق الرقبة، وأنه إذا عجز عن الكفارة بالعتق فإنه ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين توبة منه لله عز وجل من التقصير، وتعظيماً لأمر الدم كما ذكرنا، وإلا فهو لم يقصد، والله عز وجل يقول: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:٥].
ومن قتل خطأً لم يحكم بإثمه، ولكن الله تعالى عظم أمر الدماء والأنفس، حتى لا يتساهل في ذلك، فإذا تصور المسلم أن القتل وقع بقيادة سيارة مثلاً ساقها، فصدم شخصاً فقتله؛ فإنه يلزم بالدية، فإذا دفع الدية فإنه يتحفظ عن أن يزهق أرواح الناس بالتساهل في قيادته وسياقته، وكذلك أيضاً إذا أعتق الرقبة، فإذا لم يجدها صام شهرين متتابعين؛ فإذا رآه غيره اعتبر، فتصبح الأنفس مهابة، والحرمات معظمة، بخلاف ما إذا قيل: إن هذا أخطأ، فلا شيء عليه، فإن الأمر يكون دون ذلك، فيتساهل الناس في الأسباب الموجبة للزهوق، وإذا جاء الطبيب في طبه وعلاجه فخرج عن السنن والقواعد المعتبرة عند أهل الخبرة، أو تساهل في تدبير أمور المريض؛ حتى زهقت نفسه ومات، فإنه يحكم عليه بالدية، فيضمن هذه النفس، ويحكم بوجوب الكفارة عليه، فعندها يتحفظ الأطباء في أرواح الناس وأجسادهم، وقس على ذلك غيرهم ممن يخطئ وتحصل منه الجناية.
وكذلك في البر؛ فلو أنه خرج ورمى غزالاً وظنه صيداً، فمر شخص بينه وبين الغزال؛ فقتله، أو رمى شاخصاً يظنه فريسة؛ فإذا به إنسان، فإنه في هذه الحالة سيدفع الدية لأهله، ثم بعد ذلك يكفر الكفارة الشرعية، الأمر الذي يجعله إذا أراد وفكر أن يصيد بعد ذلك يتحفظ غاية التحفظ، وإذا علم غيره بخطئه تحفظ أيضاً، فابتعد عن الأماكن التي فيها الناس، ورمى على وجه يأمن فيه غالباً من الخطأ، وكل هذا حكمة من الله سبحانه وتعالى.
ولا شك أن الأصل يقتضي أن المخطئ لا شيء عليه، ولكن العلماء بينوا أن الشريعة أوجبت هذه العقوبات، وتسميتها عقوبات تجوزاً، فإن المعاقبة بالكفارة وبالدية صيانة للأنفس، وصيانة للأرواح، وحتى لا يتساهل الناس في الدماء، وفي إزهاق الأرواح، ولا شك أن من نظر إلى هذه الأحكام وعواقبها؛ فإنه يجد ذلك جلياً.
وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ} [الأحزاب:٥] لا يعارض وجوب الكفارة ووجوب الدية؛ لأن قوله: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) أي: ليس عليكم إثم، فمن هنا من قتل خطأً لا إثم عليه، لكن لا يمنع هذا أنه يضمن للناس حقوقهم، ولا يمنع هذا أنه لا يقع في هذا الخطأ إلا بنوع إهمال وتقصير؛ فيترتب على هذا الإهمال ما يوجب زجره وجبر النقص الموجود فيه، من باب الخطاب الوضعي، لا من باب الخطاب التكليفي.
وهذا كما قرره الأئمة في كتاب المقاصد ومباحثه: أن المؤاخذ هنا من باب الخطاب الوضعي، وليس من باب الخطاب التكليفي؛ لأن الخطاب التكليفي يفتقر إلى وجود نية وقصد، وهذا لم يقصد القتل، فاستشكل العلماء: كيف أوجبت الشريعة على من يقتل خطأً الضمان والكفارة، مع أنها لا تعتبر عمل الشخص إلا بنية، والأصل أنه لا عمل إلا بنية، فهو لو كان ناوياً للقتل لصح أن يؤاخذ بالضمان، وأن يؤاخذ بالكفارة؟ وقد أجاب على ذلك الإمام الشاطبي -رحمه الله- في كتابه النفيس (الموافقات)، وفي كتاب المقاصد منه؛ فقال: (إنه وإن لم يكن قاصداً للقتل-النية غير موجدة- فإن هذا من باب الخطاب الوضعي، والخطاب الوضعي لا يشترط فيه النية).
ومعنى الخطاب الوضعي: أن الشريعة وضعت علامات وأمارات حكمت بأحكام عند وجودها، بغض النظر عن كون الإنسان قاصداً أو غير قاصد.
فمثلاً: قالت الشريعة: من أتلف شيئاً رد مثله، أو دفع قيمته، بغض النظر عن كونه قاصد لهذا الإتلاف أو غير قاصد، فهذا يسمى بالخطاب الوضعي، ولا يشترط فيه القصد والنية.
ولهذا نظائر كثيرة؛ منها مثلاً: الطلاق؛ فمن طلق زوجته هازلاً فهو ما قصد الطلاق، وما نوى الطلاق؛ بل كان يمزح مع زوجته، فقال لها: أنت طالق، فأوجبت الشريعة عليه تطليق زوجته؛ لأنها جعلت هذا من باب الخطاب الوضعي، بغض النظر عن نيته قاصداً أو غير قاصد.
وهذا يسمى: الحكم بالعقوبة بخطاب الوضع، وبناءً على ذلك لا تعارض بين المؤاخذة بالنيات، وبين العقوبة التي وردت هنا بالكفارة والدية؛ من باب الزجر، ومنع الناس من التساهل في الدماء وإزهاقها.