قال المصنف رحمه الله:[وإن حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بمجرد ذلك] الأصل الشرعي أن المرأة إذا كانت منكوحة وذات زوج فإن الولد للفراش، ولا يجوز اتهامها بأن هذا الولد ليس بولدها، وإن كان المتهم زوجها فيلاعن أو يقام عليه الحد، وإن كان غيره فيثبت ذلك أو يقام عليه الحد، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:(الولد للفراش)، فأثبت أن المرأة إذا كانت فراشاً لرجل أنه يلحق الولد به، وهكذا إذا كانت أمة؛ لأن أصل الحديث في قصة عبد بن زمعة، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما في يوم الفتح، والشاهد من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش)، فجعل الأمة التي كانت لـ زمعة تابعة للفراش، ولذلك قالوا: إذا كانت أمة يطؤها سيدها؛ فالولد لذلك السيد، وكذلك إذا كانت زوجة، فالولد لذلك الزوج، لقوله عليه الصلاة والسلام:(الولد للفراش).
لكن لو حملت وهي بكر، أو طلقت وبانت من زوجها ومضت مدة أكثر الحمل، يعني بعد أربع سنوات من الطلاق؛ لأنه تقدم معنا في الطلاق ومسائل الإلحاق أنها تمضي إلى أكثر مدة الحمل، فمضت إلى أكثر مدة الحمل، ثم فوجئ بها وهي حامل، فهل مجرد حمل المرأة دليل على زناها إذا لم تكن ذات زوج وثيب؟ للعلماء والأئمة رحمهم الله في ذلك قولان: القول الأول: إن الحمل ليس دليلاً على الزنا، ولا تحد المرأة بمجرد الحمل، وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث، وهو مروي عن عمر بن الخطاب في إحدى الروايتين عنه رضي الله عنه وأرضاه.
القول الثاني: إن حمل المرأة غير ذات الزوج والثيب دليل على زناها، فيقام عليها الحد، فترجم إن كانت محصنة بأن طلقت ثم حملت على هذا الوجه، وتجلد وتغرب إن كانت بكراً، وهذا مذهب المالكية وطائفة من السلف رحمة الله على الجميع، وهو رواية أخرى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
روي عن عمر القولان: القول الأول: في خطبته عندما ذكر حد المرأة إذا زنت وقرأ آية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكم) وقال: إذا كانت البينة أو الحبل، فجعل الحمل دليلاً من أدلة الإثبات في المرأة إذا لم يكن لها زوج ولا سيد.
القول الثاني: في قضية امرأة كانت بمكة، وكان عمر في الموسم أو في عمرة من عمره رضي الله عنه وأرضاه، فأُتي بامرأة كانت بكراً وهي حامل، والناس يريدون جلدها، فسأل عن حالها، فأخبر أنها من بيت صالح، وأنها امرأة صالحة مستقيمة، فدعا بها وسألها وقال: ما بكِ؟ قالت: إنني كنت أصلي من الليل ما شاء الله، ثم غلبتني عيناي فلم أشعر إلا وقد اعتلاني رجل وقذف فيّ كالكوكب أو كالشهاب، فعلم عمر رضي الله عنها غفلتها مع أنها معروفة ببيت صالح وبيئة صالحة، فأسقط عنها الحد، ولم يقم عليها الحد، وكتب إلى الآفاق ألا يقتل بمجرد الحمل حتى يكتب إليه.
ولكن هل هذا رجوع من عمر عن قوله الأول، أو تخصيص من عموم الأصل؟ للمسألة وجهان: إن قلنا: إن عمر رضي الله عنه ذكر البينة والحمل كدليل ما لم توجد شبهة تدرأ الحد، فحينئذٍ يبقى الحمل من أصله دليلاً وحجة، لكن إذا وجدت قرائن تدل على إسقاط الحد، مثل أن تدعي المرأة أنها غلبت أو أكرهت أو سُقيت منوماً أو نحو ذلك؛ قُبل قولها وسقط الحد عنها؛ لأن الله تعالى قال:{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ}[النور:١٣]، فجعل الأصل قائماً على البينة، وهي الشهادة، وقال صلى الله عليه وسلم:(لو كنت راجماً أحداً من غير بينة لرجمت هذه) فجعل البينة في الأصل الشهود، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف خلافاً لبعض العلماء الذين يرون عمومها، ولكن الأصل في البينة هذا، قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما حينما قذف هلال بن أمية امرأته بـ شريك بن سحماء -: (البينة أو حد في ظهرك) وقد أجمع العلماء أنه لا بينة في الزنا إلا الشهود، وهذا يدل على أن الشريعة تطلق البينة عموماً وتريد الخصوص وهو شهادة الشهود.
وعلى كل حال الأشبه أنه لا يقام الحد إلا بالبينة على ظاهر النص، ويقال: إذا وجدت الشبهة اندرأ الحد، وعلى هذا فقول الجمهور الذين يقولون بالبقاء على الأصل أولى وأحرى؛ لأنه لم يرد نص في الكتاب والسنة باعتبار الحمل دليلاً على ثبوت الزنا.