للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الشرط الثاني: أن تكون منفعة الإجارة مباحة]

قال المصنف رحمه الله: [الثالث: الإباحة في العين].

أي: الإباحة في منفعة العين، فيشترط لصحة الإجارة: أن يكون العقد على منفعة أذن الشرع بها، والمنافع منها ما أذن الله به ومنها ما حرمه الله عز وجل، فلا يجوز أن يبرم عقد الإجارة على أمر حرمه الله عز وجل؛ لأن تصحيح عقد الإجارة يدل على الإذن بهذه المنفعة.

فإذاً: لا نحكم بصحة عقد إجارة حتى نعلم ما هي المنفعة التي قام عليها العقد، فإذا علمنا ما هي المنفعة -وهو الشرط الأول- فلابد أن نعلم كذلك هل هذه المنفعة أذن بها الشرع أو لم يأذن، وبناءً على ذلك تنقسم المنافع إلى: مأذون به شرعاً، وغير مأذون به شرعاً.

فأما المأذون به شرعاً كالسكنى وركوب الدواب والطب والعلاج ونحو ذلك من الأمور التي أذن الله بها، فمثلاً: يستأجر الطبيب للعلاج.

نقول: هذا العلاج مأذون به شرعاً إذا كان بشيء غير محرم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء).

كذلك أيضاً: لو استأجر للركوب، نقول: ركوب الدابة مأذون به شرعاً، والسفر إلى مكان مباح للصيد أو النزهة إذا لم تكن على وجه محرم من حيث الأصل مأذون بها شرعاً، والركوب لذاته مباح شرعاً.

وهكذا بالنسبة لخياطة الثياب وغسلها وكذلك بالنسبة لسكنى الدور وغير ذلك من المنافع التي أذن الشرع بها، نقول: عقد الإجارة جائز ومأذون به شرعاً.

لكن: إذا اشتمل على منفعة محرمة، أو كانت منافع العين لم يأذن بها الشرع؛ فإننا لا نصحح عقد الإجارة، فيشترط لصحة عقد الإجارة أن تكون المنفعة التي من أجلها استأجر الإنسان قد أذن بها الشرع.

فهناك أمران: المنفعة، والإباحة.

فلو استأجره لضرر ومفسدة؛ لم يجز، ولو قال له: أريد منك أن تهدم دار جاري وأعطيك عشرة آلاف ريال لم يجز؛ لأن هدم الدار إفساد في الأرض، وهو كذلك لا يملكها، بل هو معتد وظالم، فإذا استأجره لذلك فهذه إجارة محرمة، والأجير لا يستحق شيئاً حتى ولو قام بهذا الفعل؛ لأنه فعل لا يأذن به الشرع.

ولو استأجره لأمر حرام فيه ضرر بجماعة أو فرد، فهذه إجارة غير مشروعة وباطلة؛ لأن المنفعة لا يأذن بها الشرع، فوجود هذا العقد وعدمه على حد سواء؛ فلا يستحق مطالبته بالأجرة.

إذاً: يشترط أن يكون هناك نفع، وأن يكون النفع مأذوناً به شرعاً.

قد يكون النفع غير مأذون به شرعاً، فالخمر أخبر الله عز وجل أن فيها منافع وفيها إثماً، وأن إثمها وضررها أكبر من منفعتها، والشريعة تحرم عند غلبة المفاسد أو لاستجماع الشيء للمفاسد، ولذلك يقولون: قد يكون الشيء في ظاهره مصلحة ولكن تحرمه الشريعة لمفسدة أعظم موجودة في الشيء، فالخمر مثلاً في ظاهرها الهزة والنشاط والطرب ونحو ذلك مما يعتري شاربها لكن الأضرار والمفاسد التي تترتب عليها أعظم مما فيها من منافع، حتى ذكر العلماء أن الله تعالى لما حرمها سلبها منافعها فأصبحت من الضرر، إلا أن أهل العلم قالوا: فيها نفع.

فالحاصل أن الإجارة إذا كانت على شيء فيه ضرر فإنها لا تجوز، وهي محرمة، ولا يستحق العامل الذي عمل هذا الضرر أجرةً، فلو طالب من قال له: اهدم هذه الدار، بالأجرة التي وعده بها، فإنها سحت وحرام ولا يستحقها.

إذاً: لابد وأن تكون المنفعة مأذوناً بها شرعاً.

ثم إن الشريعة تجيز المنافع المباحة المقصودة، فخرجت المنافع غير المقصودة، فحينما يستأجره لنفخ الهواء في بالون أو نحوه، نقول: إذا انتفخ الهواء في البالون فما المنفعة! وما المصلحة؟! وهكذا لو استأجره لضرب حديد في بعضه مثل ألعاب الأطفال أو نحوها، فما المصلحة وما الفائدة؟! فإذاً: لابد وأن تكون المنفعة مقصودة؛ حتى يقع عليها الإذن الشرعي والإباحة؛ لأنها لو كانت في ظاهرها منفعة لا مصلحة فيها ولا تقصدها العقول السوية كان بذل المال فيها من إضاعة المال، فالصبي إذا نفخ الهواء أي فائدة يستفيدها؟ وإذا ضرب الحديد ببعضه فأي فائدة يستفيدها؟! وإذا رأى الحديد مرتفعاً أو موضوعاً فأي فائدة يستفيدها؟! إذاً: لابد أن تكون هناك منفعة مأذون بها شرعاً، فإذا كانت المنفعة غير مأذون بها شرعاً فهذا سيفصله المصنف رحمه الله.

[الثالث: الإباحة في العين، فلا تصح على نفع محرم كالزنا والزمر والغناء، وجعل داره كنيسة أو لبيع الخمر].

فقوله: [ولا تصح على نفع محرم كالزنا].

كان أهل الجاهلية في جاهليتهم يستأجرون الإماء، وكانت هناك بيوت للدعارة وللبغاء، فحرم الله ذلك، وأنزل آية النور المشهورة {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:٣٣] فالله عز وجل حرم عليهم أن يؤجروهن من أجل هذه الجريمة وهي: الزنا والعياذ بالله، فنص العلماء رحمهم الله على أنه لا تجوز الإجارة لفعل الزنا، ونصت السنة أيضاً على ما نص عليه الكتاب من التحريم، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه حرم ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن) وقوله: (ومهر البغي): هو ما يعطى للمرأة من أجل أن تزني والعياذ بالله، فلو أنه استأجر امرأة من أجل أن يطأها على وجه محرم فإن المال سحت وحرام، ولا تستحق المرأة هذا المال، بل إنه مال محرم بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فلو استأجر على فعل الزنا، فهذا نوع من أنواع المنافع المحرمة، وهذا يتعلق بالأفعال.

<<  <  ج:
ص:  >  >>